خسرنا المواطنة ولم نعد حتى أفراداً

عرّف علماء الاجتماع والقانون الدولة بأنها: (جماعة من البشر يعيشون في أرض معيّنة مشتركة مؤلّفين هيئة سياسية مستقلّة ذات سيادة).

إن هذا التعريف يقودنا ببساطة إلى مفهوم المواطَنة الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الدولة، وبالتالي فإن المواطنة بمفهومها الواسع هي الصلة أو الرابطة القانونية بين الفرد والدولة، التي تتحدّد فيها العلاقة بين حقوق الفرد في الدولة وواجباته تجاهها، وبذلك يكون الفرد في هذه الدولة مواطناً قبل كونه أيّ شيء آخر، وانتماؤه يكون للدولة لا لغيرها من الانتماءات الأخرى. هنا فقط تكون المواطَنة هي الشعور الحقيقي الصادق بالانتماء إلى الوطن ضمن إطار التاريخ المشترك والأرض والشعب الواحد، بما أنها مفهوم إنساني_ حقوقي يتضمّن جملة من الحقوق والواجبات يكفلها الدستور في أيّ بلد لمجموع الأفراد المنضوين تحت لوائه.

وعلى هذا الأساس يُعرّف المواطن على أنه الإنسان الذي يستقرّ بشكل ثابت داخل الدولة ويحمل جنسيتها، ويكون مُشاركاً في الحكم، خاضعاً للقوانين الصادرة عنها، متمتّعاً بشكل متساوٍ مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، مُلتزماً بأداء مجموعة من الواجبات اتجاه الدولة.

فما هي هذه الحقوق والواجبات؟

يترتب على المواطَنة ثلاثة أنواع رئيسية من الحقوق والحريات التي يجب أن يتمتّع بها جميع مواطني الدولة دونما تمييز من أي نوع (الدين، اللون، الجنس، أو اللغة، … الخ) تتمثّل بالحقوق المدنية التي تمنح المواطن حياةً كريمة وحرّة شريطة ألاّ تتعارض هذه الحرية مع حرية الآخرين وحقوق الدولة، وكذلك حقّه في الحماية القانونية والمساواة أمام القانون والاعتراف بشخصيته القانونية، إضافة إلى حقوقه السياسية المتمثّلة في المشاركة بالقرارات السياسية من خلال التنظيمات المدنية والنقابية. إلاّ أن أهم الحقوق التي تُفضي بشكل مباشر إلى ما سبقها من حقوق، وما يليها من واجبات، هي الحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تتمثل بحقّ العمل والحرية النقابية، والحقّ في إقامة المشروعات الاقتصادية الخاصّة بما يتوافق والقوانين النّاظمة، إضافة إلى حقوقه الاجتماعية التي تكفل الحدّ الأدنى من الرفاه الاجتماعي والرعاية الصحية، والحق في الغذاء الكافي والمسكن والتنمية الاجتماعية، والحق في بيئة نظيفة وخدمات كافيه تضمن تأمين المستلزمات الأساسية للمعيشة والحياة التي تليق بالإنسان. أمّا الحقوق الثقافية فهي حق التعليم والوصول إلى منابر الثقافة ووسائلها بكل اتجاهاتها، إضافة إلى حرية الرأي والمعتقدات، وصون ثقافة الأقليات.

كل هذا مقابل واجبات تتمثّل في حماية الوطن والدفاع عنه، إضافة إلى تأدية الضرائب التي تعود له عبر الخدمات المُقدّمة من الدولة كالماء والكهرباء والتدفئة والتنقّل و…الخ.

ولكن، إذا ما نظرنا إلى واقع السوريين منذ أكثر من عشر سنوات، نجد أنهم كانوا ولا يزالون مُطالبين بكل الواجبات التي نصّ عليها مبدأ المواطنة والدستور، مقابل إهمال مختلف حقوقهم تحت ذرائع شتّى لم تعد في غالبيتها تُقنع حتى الرضيع، رغم أن الغالبية منهم هبّوا للدفاع عن الوطن خلال حرب ما زالت مستمرة في بعض المناطق، لكنهم لم يجنوا من الحقوق أبسطها، ورغم أن عموم السوريين تحمّلوا أعباء هذه الحرب من تدمير لمنازلهم ومناطقهم وتشرّدهم في مختلف بقاع الأرض كلاجئين أو نازحين، إلاّ أنه ما زال قسم منهم لا يستطيع العودة لمنزله إن لم تكن هناك موافقات أمنية سواء للعودة أو لترميم ما هدّمته الحرب، في تخلٍّ صريح عن مبدأ حرية التنقّل والسكن التي نصّ عليها الدستور، فضلاً عن الضرائب المفروضة على أبسط حركة أو معاملة في الدوائر الحكومية.

وفي مجال الضرائب التي أصبح اجتراحها الشغل الشاغل للحكومات المتعاقبة، فقد وصلت إلى مستويات وحدود لم تبلغها دولة في العالم، خاصّة تلك المفروضة على أصحاب الدخل المحدود وباقي الشرائح التي تعيش من كدّ عملها اليومي الذي قد لا يكفي لتسديد بعض تلك الضرائب، في تجاهل تام لأولئك التجّار وسماسرة الحرب وأثريائها الجُدد الذين نبتوا كالفطر بين ليلة وضُحاها، وباتوا مُتحكّمين باقتصاد البلاد وقوت الملايين ومصيرهم، هؤلاء الذين لا تطولهم المظلّة الضريبية إلاّ فيما ندر، وحتى هنا يتمّ التهرّب وعدم الالتزام القانوني تجاه الدولة دون أدنى حساب أو مساءلة. إن السياسات الاقتصادية والضريبية المُتّبعة تركت السوريين في حالٍ يُرثى لها من الفقر والبطالة، بما يؤدي إلى جوعٍ حقيقي لم ينجُ منه غالبية السوريين الذين باتوا جميعاً تحت مستوى الفقر المتعارف عليه عالمياً بدرجات لا تليق بإنسانية الإنسان في بلد ينعم بالخيرات رغم كل ما أهدرته الحرب العبثية، وما يؤكّد هذا انتشار البضائع والمنتجات السورية في مختلف بقاع الأرض، في الوقت الذي لا يمكن لسوري في الداخل الحصول عليها بسبب الغلاء الفاحش الذي فاق كل التصوّرات والتوقّعات والذي طال أيضاً فواتير الخدمات غير المتوافرة كالماء والكهرباء والهاتف …الخ، فضلاً عن عدم قدرة السوري اليوم على شراء سندويشة فلافل لأن سعرها والضريبة المُضافة عليها جعلها بالنسبة للجميع حلماً عصيَّ المنال.

وإذا ما أردنا استعراض الوضع الصحي فإننا سنحتاج إلى صفحات كثيرة لتوصيفه سواء في سعر الأدوية أو الخدمات التي لم تعد مجانية في المشافي والمستوصفات الحكومية، وصولاً إلى أجور المعاينة الطبية التي يفرضها الأطباء بعيداً عن المنطق والعقل بحيث لم تعد تتوافق ومدخول السوريين إطلاقاً. هذا عن الوضع الخدمي والمعيشي الذي بات منعدماً أو في حدوده الدنيا، وهذا بحدِّ ذاته تخلٍّ واضح وحقيقي من الدولة عن مهامها ومسؤولياتها التي فرضها الدستور والعقد الاجتماعي الناظم للعلاقة بين الدولة والأفراد المنضوين تحت لوائها.

أمام هذا الواقع الخيالي والمرير، هل ما زلنا مواطنين أم أننا أقلّ مرتبة حتى من الأفراد في نظر حكوماتنا التي، من خلال سياساتها المُتّبعة لم تعد ترانا أكثر من أرقام تُحصي عليها أنفاسها وحركاتها، في الوقت الذي ما زالت تطرح شعار المواطنة والحقوق والواجبات!!

ولتلك الحكومات نقول: إن مبدأ المواطنة القائم على الحرية والعدالة والمساواة الاجتماعية، بغضّ النظر عن أيّة انتماءات أخرى، ينزع فتيل أيّ نوع من أنواع الفتنة مهما كان كبيراً، ويُبعد أي خطر داخلي أو خارجي مُحتمل على الدولة مهما كان فظيعاً، لأن الشعب بكامله وبحرية مُطلقة سيدافع بكل إمكاناته وطاقاته عن دولته المُتّسمة بالعدالة والمساواة بين جميع مواطنيها بلا استثناء.

آخر الأخبار