إنسانيتنا اليوم مُتعطّشة للأخلاق أكثر

إيمان أحمد ونوس:

قال أحدهم: (إن التعاملإلى الراقي مع الناس لا يحتاج إلى شهادة عالية بل إلى أخلاق عالية، وهذه أعتقد أنها حقيقة غائبة)

صحيح أن حياة الأفراد والمجتمعات لا يمكنها التطور والارتقاء إلّا من خلال تطور مختلف العلوم، التي لا شكّ أنها الحامل الأساسي لكل تطور. لكن بالمقابل، فإن الإنسانية الحقيقية والعميقة في سعيها الدؤوب للارتقاء بالأفراد والمجتمعات إلى مستويات تليق بهذه الإنسانية تحتاج أكثر إلى تدعيم القيم الأخلاقية الإيجابية في مختلف مناحي حياتنا، كي نواكب فعلياً أيّ تطور منشود. ذلك أن الأخلاق هي الناظم الأساس لشخصيات الأفراد في مسيرتهم التي سيتمُّ من خلالها اكتساب العلوم والمهارات الداعمة لتطور المجتمع بمختلف علاقاته وقيمه والتي يُفترض أن تقوم على التعامل الإنساني الراقي، واحترام آراء الآخرين ومشاعرهم، بغضّ النظر عن الفوارق الطبقية أو العلمية أو العمرية وغيرها من فوارق واختلافات.

لكن واقع العلاقات الإنسانية اليوم محكوم بالكثير من القيم والمفاهيم المُخالفة لما ذكرنا، واقع تسوده الأنانية والفردية والتّعالي إضافة إلى سيادة القيم المادية والنفعية التي تعتبر أن كل ذي مال وسطوة وجاه هو الأفضل والأقوى، مثلما يرى البعض من المتعلمين وحملة الشهادات الأكاديمية، وكذلك بعض المثقفين والساسة أنهم الأفضل والأكثر فهماً للحياة والقوانين التي يجب أن تحكم العلاقات بين الناس، في تعالٍ واضح وجلي على الآخرين الذين لا يملكون ما يملكونه هم من شهادات ومعارف وثقافة، والأكثر فجاجة هو اعتبار أولئك الآخرين مُجرّد رعاع لا يمكن أن يتساووا معهم أو أن تكون هناك علاقات بينهم، متجاهلين حقيقة أن آباءنا كانوا في غالبيتهم أُميّين لا يعرفون القراءة أو الكتابة، لكن أخلاقهم كانت هي الشهادة الأقوى، فهم من أنجب وربّى أولاده على قيم المحبة واحترام الآخرين مهما كانت الفروقات، وكم هي الشواهد الماثلة في أذهان الكثيرين عن ذلك التعامل الإنساني والأخلاقي الذي ساد العلاقات الاجتماعية في الماضي. هؤلاء الآباء هم ذاتهم من علّم الأبناء وأوصلهم إلى امتلاك شهادات علمية وأكاديمية عالية ساعدتهم على تغيير الواقع المعرفي والمادي للأسرة ذاتها ومن ثمّ للمجتمع ككل. هؤلاء الآباء هم أنفسهم من قال يوما ً(الأدب فضّلوه على العلم) بمعنى أن من لا تحكمه أخلاقه التي ترفعه بين الناس لا يمكن لشهاداته مهما بلغت أن ترفعه بينهم إن لم يكن أخلاقياً متواضعاً ومُحبّاً للآخرين. فكم هو مؤذٍ لإنسانيتنا وجود أولئك المتعلمين والمثقفين أو المتثاقفين الذين يتعاملون مع الآخرين تعاملاً فوقياً لا يخدم سواهم، وبالتالي لا يمكن أن يكون لعلمهم وثقافتهم الأثر المنشود في تغيير المجتمع وتطويروه، ذلك أن هذا التعامل سيُبعد عنهم الآخرين فلا يجدون صدىً لأفكارهم إلاّ داخل جدران منازلهم والتي لا تنجو في كثير من الأحيان والحالات من هذا التّعالي والفوقية تجاه الأهل والزوجة والأبناء، والأمثلة كثيرة عن هذه الحالات في الواقع والدراما والسينما.

إن أمثال أولئك المتعلمين والمثقيون لا شكّ يعيشون حالة من التناقض والازدواجية في علاقاتهم وحياتهم بمختلف أوجهها واتجاهاتها، وهذا ما يقوّض الأثر والصدى المنشود في نشر قيم العلم والثقافة في المجتمع، باعتبارهم مثل سلبي عن المتعلمين والمثقفين، كما يدفع بالغالبية المحافظة في مفاهيمها وقيمها إلى الابتعاد عن تعليم الأبناء وتثقيفهم كي لا يكونوا مثلاً سيئاً أو سلبياً في المجتمع، وهذه النتيجة بالتأكيد لا تخدم سوى أولئك الساعين دوماً لإبقاء المجتمع راكداً خاملاً لا يُجادل ولا يُناقش ولا يُطالب بحقوق كي تستمر سطوة التجهيل والاستبداد وأولئك المتثاقفين أو مُدّعي المعرفة والقيم من رجال الدين والسياسة فيظلوا في سطوتهم آمنين مطمئنين.

آخر الأخبار