رسالة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني (24/ 10/ 2024)

إلى المقــاومين جميعاً في الجنوب اللبناني ومعهم الصامدون والنازحون عن قراهم ومدنهم أينما كانوا،

إالى شهـداء فلسـطين ومقــاوميها في غـزة والضـفة الغربية والقـدس وفي كلّ فلسـطين.

إلى عائلات الشـهداء والأسـرى والجرحى وكل الذين أمضوا حياتهم في الكفاح طوال مئوية النضال الطويل لحزبنا؛ منهم من رحل، وله منا تحية إجلال وإكبار، ومنهم من لا يزال يتابع المسيرة عهداً ووفاء للتضحيات الجسام من أجل لبنان الوطن والتحرّر والاشتراكية.

إلى اليساريين والعلمانيين والديمقراطيين والتقدميين الذين تشاركنا معهم مسيرة النضال في الكثير من المحطات في معارك الاستقلال، ضد الانتداب الفرنسي وضد الأحلاف العسكرية ومشاريع التقسيم، وفي مواجهة الاحــتلال الصهــيوني ومقـاومته من أجل تحرير الأرض كما من أجل التغيير الديمقراطي عبر النضال ضد نظام المحاصصة الطائفية الذي ترسّخ أكثر فأكثر بعد انتهاء الحرب الأهلية.

إلى شعبنا اللبناني الذي كتبنا معه تاريخاً مجيداً مليئاً بالتضحيات الجسام في مواجهة القمع والملاحقات والسجن في العمل السرّي والعلني وفي التظاهرات والمعارك النقابية والاجتماعية وصولاً الى انتفاضة 17 تشرين عام 2019.

إلى الرفيقات والرفاق الذين يتابعون المسيرة سواء أكانوا في التنظيم أو في خارجه

إلى هؤلاء جميعاً نوجّه تحية الذكرى المئوية لتأسيس حزبنا، مؤكّدين لهم على موقفنا في المضي قدماً من أجل تحقيق الحلم العظيم في بناء وطن حر وشعب سعيد.

إن شهــداء كل هذه المعارك يمثّلون هوية حزبنا واستمراره حزباً ثورياً والتي طبعت تاريخه وميّزته طوال مئة عام من النضال، حقّق فيها العديد من الإنجازات في مجال تحـرير الأراضي اللبنانية المحـتلة من رجس الاحتلال الصهــيوني، وفي إقرار قانون العمل وتأسيس النقابات العمالية والروابط التعليمية وانتزاع الحقوق والمكاسب الاجتماعية للطبقة العاملة وذوي الدخل المحدود والدفاع عن الحريات العامة، كما كان لديه في مسيرته أخطاء وإخفاقات لا بد من الاعتراف بوجودها للاستمرار في النقاش والبحث عن أسبابها الموضوعية منها والذاتية، لمعالجتها بما يساعده على التعامل معها برؤية واضحة موحّدة.

الرفيقات والرفاق، أيها الأصدقاء،

تمرّ شعوبنا العربية اليوم في مرحلة تشتدّ فيها المخاطر الوجودية حيث يتعرض الشعب الفلســطيني لحـرب إبـادة جماعية غير مسبوقة في تاريخه، كما تتعرض القضية الفلسـطينية لمحاولات التصفية. إن المشروع الصهــيوني الذي وصل الى نهايته المنطقية في تكريس الفاشية وإقامة نظام الفصل العنصري في ظل حكومة يمينية متطرّفة يهدّد ايضاً بإخضاع المنطقة العربية في حرب شاملة مدمّرة بما يعيد إلى الكيان الصهـيوني وظيفته التوسّعية التي فقدها إثر عملية 7 أكـتوبر واستكمال مسار التطبيع بدعم أمريكي – أطلسي.

كما أصبح واضحاً أنّ (إسـرائيل) تستهدف لبنان بأسره لا تصفية البنية العسكرية لــحــزب اـلله فقط، وأخطر ما تدعو إليه الولايات المتحدة و(إســرائيل) هو دعوة اللبنانيين لاستغلال الفرصة بأن المقـاومة قد ضعفت وهذه فرصتهم للانقضاض عليها.

وفي خضم هذه المواجهة الشرسة التي يبديها المقــاومون في الجنوب، فإن جيش العدو الصهــيوني مستمر في محاولات توغّله البرّي وتهديم المنازل في قرى الشريط الحدودي والضـاحية الجنوبية كما في الجنوب والبقاع عموماً، وهو مستمر كذلك في ارتكاب المـجازر والاغتـيالات واستهداف المدنيين نساءً واطفالاً وشيوخاً في العاصمة بيروت والمناطق اللبنانية كافة.

إن اتساع العـدوان من دون وجود رادع دولي أو عربي أو اقليمي قادر على إيقافه حتى الآن منعاً لجرّ المنطقة الى حرب إقليمية، يستدعي العمل على إحداث تغيير فعلي في موازين القوى، تغيير يكون ذا طابع استراتيجي محكوم بمبدأ التمسك بخيار المقــاومة لمنع العدو الإســرائيلي من تحقيق أهدافه التوسعية والسيطرة على الثروة الغازية والمائية وفرض التطبيع على لبنان عبر القرار 1701 بمندرجاته كافةً، إضافة إلى أهدافه الإقليمية في تصفية القضية الفلسـطينية بحيث لا يبقى من يدعم هذه القضية العادلة.

فعلى الرغم من الصمود الأسطوري للشعب الفلسـطيني ومقــاومته، وعلى الرغم من كلّ أشكال الدعم والتضامن الأممي وما تحقق من إنجازات على المستويين الدولي والشعبي في جعل القضية الفلسـطينية القضية الأولى في العالم، لا تزال الهجمة الصهيــونية مستعرة وتتوسع إلى الضـفة الغربية بعد غــزة.

فالولايات المتحدة الأمريكية بأساطيلها وقواعدها العسكرية مع حلفائها الأطلسيين تدعم الكيان الصهــيوني في حـرب الإبـادة هذه في فلسـطين ولبنان، كما تستمر في شن الحروب العدوانية المتنقلة من بلد الى آخر والتي تعم دولنا العربية بحيث تدفع فيها شعوبنا أثماناً باهظة دماء وضحايا وتضحيات وكوارث في النزوح والتهجير واللجوء والجوع وسوء التغذية والأوبئة والبطالة والمديونية. إن هذه العدوانية الإمبريالية المتعددة الأشكال تعكس حالة الهمجية المتوحشة التي تسود النظام العالمي المتهالك، حيث تحاول الإمبريالية الأمريكية الدفاع عنه في وجه صعود العالم المتعدد المراكز القطبية.

لقد تجذّرت أزمة الرأسمالية العالمية التي دخلت فيها عقب الأزمة العالمية الكبرى عام 2008 نتيجة تضافر التطور التكنولوجي والعولمة اللذين أدّيا الى إحداث استقطاب كبير في الثروة والدخل، وإلى تراجع حصة الطبقة العاملة من الناتج المحلي. كلّ هذا أدّى إلى خلق قوة دفع قوية لليمين المتطرف في العالم في تسعير النزعات العنصرية والفاشية وكره الآخر، لكنه في المقابل فتح فرصة كبيرة لليسار في العالم أجمع كي يستجمع قواه ويتوحد ويحقق أهدافه وتقدّمه على غير صعيد، وبخاصة على الصعيد السياسي.

وهكذا تبقى الأزمة كامنة في عجز الإمبريالية عن فرض سيطرتها على العالم كما تريد، وهو ما يتبين في استحالة نجاح المشروع الصهــيوني في العودة الى ما قبل 7 أكتـوبر، ما يتطلب من القوى اليسارية والتقدمية في العالم العربي في أن تكون على أهبة الاستعداد للانخراط في المــقاومة العربية الشاملة، وهو ما أكد عليه الحزب في بيان اللجنة المركزية حول الانخراط في جبــهة المقــاومة الوطنية اللبنانية، وفي العمل لبلورة مشروع للتحرر الوطني العربي بما يصب في قيام دول علمانية ديمقراطية في العالم العربي وفوق أرض فلسطين التاريخية.

الرفيقات والرفاق أيها الأصدقاء،

وطننا لبنان يعيش في خضم أزمة نظامه السياسي الطائفي الذي أصبح عاجزاً عن إعادة إنتاج نفسه أو حلّ الأزمات الوطنية منها والسياسية، وهو ما يشكل عقبة أساسية أمام التغيير والإصلاح وإيجاد الحلول على جميع المستويات. فإرهاصات الأزمة الاقتصادية قد عصفت به منذ عام 2019 وأدت الى انعكاسات بنيوية وتوزيعية كبرى تمظهرت في الإفقار والتهجير وتراجع القيم الحقيقية للرواتب والاجور ومعاشات التقاعد، ما أدّى إلى تراجع في المستوى المعيشي للطبقات الوسطى والعاملة، كما تمظهرت في الانهيار الحاصل في القطاعات والخدمات الأساسية في الكهرباء والمياه والصحة والتعليم والسكن، وضرب معظم مقومات الصمود الشعبي في مواجهة العدوان الصهــيوني على لبنان، ما أدّى إلى ترك أكثر من مليون وثلاث مئة ألف نازح لبناني يعيشون في أسوأ الظروف الاجتماعية بغياب الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية، وهنا لا بد من توجيه التحية إلى القوى والمؤسسات الاجتماعية والنقابية والشبابية والصحية والنسائية وإلى آلاف العائلات التي احتضنت النازحين في بيوتها، وكذلك إلى المغتربين الذين بادروا إلى تلبية نداءات التضامن مع الشعبين اللبناني والفلسطيني، كما ننوّه في الإطار ذاته بدور منظمات الحزب في المناطق كافة بما في ذلك منظماته الجماهيرية ولجنة الصمود الشعبي وجميع المتطوعين من رفيقات ورفاق وأصدقاء الذين يقدمون الدعم والمساعدة باللحم الحي، مجسّدين بوقفتهم واندفاعهم موقف الحزب وهويته والتزامه في مواجهة العدوان وعملياته الإجرامية.

في هذا الإطار، وربطاً بكل ما سبق، يقوم حزبنا الآن بسلسلة من اللقاءات السياسية لطرح رؤيته السياسية لمعالجة الازمة، ورفضاً للشروط الأمريكية الإسـرائيلية التي حملها هوكشتين في زيارته الأخيرة، هذه الرؤية ترتكز على تعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة العدوان الصهيوني من جهة ومحاولات إشاعة الفوضى والانقسامات الطائفية من جهة ثانية، وذلك وفق أسس وثوابت وطنية وأهداف وإجراءات تتمحور حول النقاط الآتية:

في الثوابت الوطنية:

– التأكيد أن (إسـرائيل) عـدو ولها أطماع توسّعية في لبنان والمنطقة،

– وأن العدوان الإســرائيلي يستهدف مصير لبنان ووجوده وطناً وكياناً وشعباً،

– وأن من حق الشعب اللبناني أن يقــاوم العدوان والاحــتلال، بل إن هذا واجب وطني على الجميع أن يلتزم به ويتحمل مسؤوليته، دفاعاً عن لبنان وحقوقه الكاملة،

في الأهداف:

فرض وقف إطلاق النار على العـدو والعمل لتعديل موازين القوى على الأرض، وهذا يأتي في طليعة الأهداف.

التمسك بخط الهدنة مع فلسـطين المحتلة المثبّت بالاتفاقية الدولية المسجّلة في الأمم المتحدة منذ عام 1949.

عودة النازحين اللبنانيين إلى قراهم من دون قيد أو شرط، وإعادة إعمار منازلهم والتعويض عن الخسائر المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بهم.

في الإجراءات العملية:

إعلان التعبئة الشعبية والوطنية الشاملة وتوفير السلاح لكل من يريد مقاومة العدو، وحشد الطاقات تنظيماً وتدريباً في إطار مقـاومة وطنية وشعبية شاملة.

تعزيز الوحدة الوطنية في مقـاومة العدوان والاحتــلال وإجرامه، والتصدّي الصارم لكل من يحاول نشر الفوضى والفتن، بعدما أظهر اللبنانيون جميعاً حالة وطنية جامعة تجلّت في احتضان النازحين،

تأمين موجبات الصمود الشعبي للنازحين وتقديم المساعدات المادية الصحية والغذائية والسكنية والتربوية، ومعالجة تداعيات النزوح الداخلي في الهجرة المتزايدة والمترافقة مع الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي لم تكتمل فصوله منذ عام 2019.

التزام السلطة اللبنانية في المفاوضات الجارية بالخطوط الحمر بحيث لا يتم ترتيب أوضاع الإقليم على حساب لبنان، ما يستوجب الاسراع في انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة من خارج الاصطفافات الطائفية ومنحها صلاحيات تشريعية كي تكون قادرة على الالتزام بهذه الثوابت وتحقيق الأهداف وتنفيذ الإجراءات العملية الملموسة وصولاً إلى إرساء أسس بناء دولة المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، دولة وطنية في خيارها المقــاوم عبر استراتيجية دفاعية تحمي سيادة لبنان من خلال جيشها الوطني الذي يجب على الدولة اللبنانية تسليحه بأحدث الأسلحة ومن مختلف المصادر..

اعتبار القرار 1701 بأنه لم يؤمّن الحماية المطلوبة للبنان، فهو أساساً غير متوازن، والمطلوب تعديله بما يضمن أمن لبنان براً وبحراً وجواً من الاعتداءات الإسـرائيلية تحقيقاً للأهداف الواردة أعلاه وتعزيزاً لمواجهة المخطّط الاسـرائيلي التوسّعي والتفتيتي والتهجيري..

الرفيقات والرفاق، أيها الأصدقاء،

إن مئوية الحزب تعني كل شيوعي ناضل في صفوف الحزب منذ تأسيسه، وهي مناسبة تدعونا إلى المزيد من الوحدة والالتزام بالنضال معاً، لا سيما في ظل الظروف الخطيرة التي يمر بها لبنان، داعين في هذه الذكرى للعودة إلى التنظيم الحزبي والمشاركة المنظمة وتحمّل المسؤولية؛ إنها دعوة إلى من استقال للعودة عن استقالته، وإلى كل من هو خارج التنظيم ولا ينتمي حالياً إلى أي حزب أو إطار سياسي آخر للعودة إلى التنظيم، بعيداً عن التكتلات، والنقاش والعمل داخل الأطر الحزبية المركزية والمناطقية. ففي النقاش والعمل المنظم تعزيز لدور الحزب وتمتين لوحدته الداخلية في هذه المعركة الوطنية والمصيرية التي يمر بها وطننا مع اعتماد التنوع والتعدد في أشكال النقاش وتوسيعه بما يتلاءم والظروف الحالية التي نعيش.

في مثل هذه الظروف الخطيرة تأتي مئوية حزبنا، لتدعونا جميعاً إلى تحمّل مسؤولياتنا التاريخية، وتقديم كل ما لدينا من إمكانيات وقدرات بما يعطي لهذه المئوية ما تستحق؛ فتشكل هذه المناسبة ليس امتداداً طبيعياً للتاريخ النضالي المجيد لحزبنا منذ تأسيسه فقط بل أيضاً للتطلّع نحو المستقبل.

فإلى شعبنا المكافح المـقاوم، إلى النازحين عن منازلهم، إلى العمال نتطلّع ونتوجّه، إلى الأجراء والموظفين والفقراء، إلى النساء والشباب والشابات، إلى الطلاب والطالبات الذين يشاركون الحزب نضالاته الوطنية والسياسية والاجتماعية نقول: تعالوا إلى التنظيم الحزبي، كونوا عنواناً أساسياً للنهوض بالحزب حزباً للمستقبل، حزباً مقـاوماً متجدداً وعصرياً منفتحاً متواصلاً مع المفكرين والفنانين والمبدعين والمناضلين في مجال الثقافة من أجل التحرر الوطني والاجتماعي،

بالاستناد إلى كل ما تقدّم، يطلق الحزب رسالته إشارة مضيئة في ذكرى مئويته التي لا بد من أن تسهم في إشاعة مناخ إيجابي عام، ولاسيما في أوساط هؤلاء جميعاً، ولدى القوى اليسارية والديمقراطية التي ستكون من أكثر المرحّبين والمشجّعين لها، باعتبارها تشكل استجابة لرغبة هذه القوى التي لطالما عبّرت عنها وطالبت بتحقيقها، ولسوف يثبت الحزب من خلال هذا الموقف وعبر ممارسته العملية ايضاً، بأنه حزب على مستوى آمالهم وتطلعاتهم.

الرفيقات والرفاق، أيها الأصدقاء،

اليوم كما ذكرنا، الرأسمالية العالمية في أزمة، ونظام الطائف في أزمة، والرأسمالية اللبنانية في أزمة وهذا ما يتيح الفرص لصعود اليسار والقوى التقدمية والديمقراطية لالتقاط الفرص والاستفادة منها. فتعالوا أيها الشيوعيون ولبّوا نداء حزبكم،

كونوا كما كنتم دوماً، على مستوى التحدي والوفاء لتاريخ حزبكم العريق المعمّد بدماء وتضحيات أسراه وجرحاه ومقــاوميه وشـهدائه الذين لا تزال جثامين بعضهم محتجزة لدى العـدو الصهــيوني؛ فاليوم يقوم هذا العـدو بأخطر تهديد لسيادة لبنان ووجوده.

كونوا حاضرين للقيام بكل ما هو صحيح ومتاح من أجل مستقبل واعد للأجيال القادمة، من أجل وطن حرّ وشعب سعيد.

بيروت في 24/ 10/ 2024

اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني

آخر الأخبار