من ذكريات الرفاق الشيوعيين وأصدقائهم رحلتي مع الحزب الشيوعي السوري | عبد المسيح بطرس

حين اتصلت هاتفياً بالرفيق عبد المسيح، وطلبت منه أن يكتب عن لمحات ومواقف من نضالات الشيوعيين السوريين، لنشرها في (النور)، أبدى حماساً لافتاً، واتفقنا على موعد. بعد بضعة أيام جاء يحمل ثمانين عاماً بهمّة الشباب، من (جديدة عرطوز) غربي دمشق، بهندامه المميّز، ومشيته الواثقة، وذقنه الحليقة، إلى (جرمانا) شرقي دمشق، منتقلاً من سرفيس إلى آخر، في ثلاثة خطوط (جديدة عرطوز- برامكة، مهاجرين- صناعة، كراج الستّ- جرمانا)، وصل في العاشرة تماماً وفق الموعد الذي اتفقنا عليه، ومعه ثماني صفحات مكتوبة، تضمّنت تفاصيل لبعض المواقف والأحداث، وإشارات إلى أحداث غيرها ما تزال طريّةً تنبض في ذاكرته، وعنده كامل الاستعداد والذاكرة الوقّادة لسردها وتقييمها واستخلاص العِبَر منها.

أكثر من ثلاث ساعات، حدّثني فيها عن البدايات، عن أسرته، إخوته، وبخاصّة ريمون (المخرج السينمائي المبدع الذي توفي منذ سنوات)، وخليل (الذي أحضرَته لنا، يوم 28/ 10/ 1961 (بعد الانفصال بشهرٍ واحد)، سيارة نقل عسكرية، جثّةً في تابوت وضعَتْه أمام المنزل، كان يؤدّي الخدمة الإلزامية، في موقع جسر بنات يعقوب، على الجبهة، وعلمنا لاحقاً أن زميلاً له (ز. ط.) قتله وهو نائم، لأن خليل كان قد أبدى تأييده للانفصال، وكان ضمن التنظيم السري للحزب. هذه الجريمة كُشفت بعد مرور خمس عشرة سنة).

 

رحلتي مع الحزب الشيوعي السوري

كتب عبد المسيح بطرس في أوراقه الثماني(*):

رحلتي قصيرة أم طويلة.. صغيرة أم كبيرة.. لست أدري!

كنت أحلم بوطنٍ جميل وقويّ وديمقراطي..

كنت أحلم بحزبٍ شيوعي جميل وقويّ وديمقراطي..

تكسّرت أغلب الأحلام، ومع ذلك ما أزال أملك بعضها.

وُلدت في 29 أيار 1945، يوم قصف الاستعمار الفرنسي مبنى البرلمان واقتحمه، وقصف في اليوم نفسه مدينتي حماة.

دخلت المدرسة الابتدائية في العام الدراسي 1951- 1952.

في الصف الثالث (1954- 1955)، أصبحت عضواً في لجنة توزيع قصص الأطفال للتلاميذ.

 

صرت شيوعياً بعمر 11 سنة!

في عام 1956، جاء إلى منزلنا الرفيق دانيال نعمة، لحضور مؤتمر لنقابات العمال في منزلنا، وكان يرافقه الشاعر الرفيق ميخائيل عيد. في هذا اللقاء عرفت بوجود الحزب الشيوعي السوري اللبناني، وبعد ذهاب الرفاق طلب مني أخي الكبير ميخائيل أن أوزّع جريدة (النور) في الحي، ومنذ ذلك الوقت اعتبرت نفسي شيوعياً.

 

إلى لبنان

في عام 1958 طُرد أخي الكبير ميخائيل من كلّية الاحتياط في حلب، وطُرد كذلك الرفيق ميخائيل عيد وعدد من الشيوعيين. ذهب أخي إلى لبنان وكذلك ميخائيل عيد، وأصبحا ملاحقَين من المخابرات.

في الصيف حاولت السفر إلى لبنان، وكان من يريد أن يسافر يحتاج إلى تصريح من دائرة الأحوال المدنية، رُفض طلبي عدّة مرّات لأن أخي شيوعي. كنت قد نجحت إلى الصف السادس، فذهبت وقابلت المحافظ (ياسين الفرجاني)، وكان محافظاً جيداً، وشاعراً، سألني: لماذا تريد الذهاب إلى لبنان؟ فقلت له: ياسيدي، أريد أن أعمل، فنحن عائلة فقيرة، يجب أن أعمل حتى أستطيع تأمين ثمن الدفاتر والأقلام للمدرسة. فما كان من المحافظ إلا أن ابتسم لي وأدار قرص الهاتف، وطلب من رئيس الدائرة إعطائي تصريح سفر، فشعرت بفرحة كبيرة لا توصف.

 

رسالة إلى بيروت

بداية عام 1959، حضر إلى منزلنا الرفيق فهد درّة (عضو اللجنة المركزية للحزب، ومسؤول منظمة تلبيسة)، وأعطاني رسالة لأوصلها إلى بيروت وأسلّمها لشخص محدّد سيحضر إلى منزل إخوتي الذين يعملون في بيروت. نفّذت المهمّة وسلّمت الرسالة لذلك الشخص حين جاء.

 

مظاهرة طلّابيّة

في بدء العام الدراسي، اشتركت في مظاهرة طلابية احتجاجاً على بقاء صور جمال عبد الناصر على صفحة الغلاف في الكتب المدرسية، فاعتُقل نحو أربعين طالباً (إعدادي وثانوي)، وكنت من بين المعتقلين. أثناء التحقيق معنا في دار المحافظة، وجّه السيد المحافظ السؤال لي: لماذا تقومون بأعمال الشغب هذه؟ فكان جوابي: يا سيادة المحافظ، نحن تخلّصنا من دكتاتورية السرّاج وعبد الناصر، والآن أنتم تقومون بالأعمال نفسها وتعتقلون الطلاب!

ابتسم المحافظ وقائد الشرطة، أمّا مسؤول المخابرات فاحتدم وقال: يمكن أن نبقيكم في السجن فترة طويلة! فقلت له: ولكن السجون، يا سيّد، لا تحلّ أيّ مشكلة ذات طابع سياسي! فما كان من المحافظ، بعد هذا الجدال، إلّا أن تكلّم مع رئيس اتحاد الطلبة في حماة (سهيل كلّاس)، وكان يرافقنا، وبعد ذلك، جرى الإعفاء عنّا وخرجنا من السجن.

هتفت: بدنا جبهة وطنية!

فضربوني

في عام 1966، حضر إلى حلب وفد من اليمن يمثّل الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي، فتجمّع آلاف الطلاب في منطقة باب الحديد، وسار البعثيون في المظاهرة بهتافات (بعثية فقط). بعد قليل صعدت فوق أكتاف أحد الرفاق، وبقينا حتى ساحة البريد وشعارنا الوحيد: (بدنا جبهة وطنية!)، لكن المخابرات أنزلوني عن الأكتاف وضربوني بشدّة.

 

الكفّ بالكفّ.. والبادي أظلم!

بعد عدّة أيام من المظاهرة، حصلت مشادّة بيني وبين مدير دار المعلمين (زهير مشارقة)، فاستدعاني إلى غرفة الإدارة، لم يكن فيها إلّا المدير وأستاذ الرياضة، وقفت أمام طاولته فصار يشتمني بكلام غير مؤدّب، ثم رفع يده وضربني على وجهي كفّاً شديداً، اقتربت منه كثيراً وقلت له: أنا مضطرّ أن أحترمك لأنّك مديري فقط، وحملت يدي وضربته كفّاً أقوى من كفّه، وركضت باتجاه الباب، وهربت من الدار.

في اليوم التالي عقد المدير اجتماعاً موسّعاً حضره كلّ المدرّسين في الدار، وطلب منهم الموافقة على قرار بفصلي من دار المعلمين، وإرسال كتاب إلى وزير التربية بفصلي من كلّ دور المعلمين في سورية.

لكن ما حدث في الاجتماع كان عكس ما تمنّاه المدير، فقد وقف أكثر المدرّسين مع موقفي، فهم يعرفونني طالباً مجتهداً ومحاوراً جيّداً معهم، وعلاقتي بهم جيّدة. بعد ساعتين من النقاش، والأخذ والردّ، اتفق الجميع على طردي من الدار عشرة أيام فقط (لسوء سلوكه مع المدير). وكان في مقدّمة المدافعين عنّي المرحوم الأستاذ صالح جماد، الذي اغتاله الإخوان المسلمون فيما بعد في حلب.

 

 

 

 

(*)- حرصت، غالباً، في الفقرات التي اخترتها ممّا كتبه الرفيق عبد المسيح على أن أحافظ على أسلوبه، ومفرداته.

آخر الأخبار