سورية بعد الأزمة.. عوامل النهوض

واجهت بلادنا الأزمة بهياكل اقتصادية منهكة، وقطاع صناعي وخدمي ضعيف ومتخلف، إثر عقد من الزمن سادت فيه رؤية اقتصادية نيوليبرالية همّشت الاقتصاد الحقيقي وحفزت القطاعات الريعية، فتوقفت العديد من المصانع والمعامل والورش الخاصة، وفرضت قوى التحالف المعادي لسورية حصاراً اقتصادياً أدى إلى فقدان مستلزمات إنتاج الصناعات السورية، وغذاء المواطن السوري ودوائه، وصار الأمن الغذائي للبلاد مهدداً، بعد تراجع الإنتاج الزراعي، وتراجع سعر صرف الليرة السورية مقارنة بالقطع الأجنبي، وارتفعت أسعار جميع السلع والخدمات بنسب تراوحت بين 100 و900%، وفقد نحو3 ملايين مواطن فرص عملهم، وارتفعت نسبة البطالة إلى نحو58%، وازداد عدد الفقراء، إذ تحول نحو 85% من الشعب السوري إلى خانة الفقر، وهاجر نحو 5 ملايين مواطن، وتوقفت المشاريع الاستثمارية، وجرى تدمير إرهابي ممنهج للبنية التحتية، كقطاعات الكهرباء والمياه وسكك الحديد والمنشآت الصناعية وآبار النفط والجسور والطرق الدولية. وحسب المصادر الحكومية والخاصة، فقد بلغ مجمل الخسائر التي تسببت بها الأزمة، من دون الأخذ بالحسبان خسائر المواطنين، نحو450 مليار دولار.

 

أولاً- عوامل النهوض

بعد هذه الإشارات إلى أوجاع الاقتصاد السوري ومعاناة المواطنين السوريين وهمومهم، يمكننا تلمس ما تتوقعه الجماهير الشعبية، وما تتطلبه عملية إنهاض اقتصادنا الوطني، لكننا نسارع هنا إلى توضيح مهم، وهو استحالة تنفيذ أي خطوات اقتصادية جدية، أو تحقيق أي أجندات لإعادة الإعمار، إذا لم تتوفر العوامل السياسية التي تؤسس لإنهاء حالة الركود الاقتصادي. إن استمرار الأزمة السورية، واستمرار غزو الإرهاب، يُعدّ فشلاً للسياسة وتكريساً للسلوك العسكري العنيف، وخرقاً لقوانين المجتمعات المتحضرة.

هنا، نركز على حزمتين من العوامل اللازمة لإنهاض الاقتصاد الوطني:

العوامل السياسية

1- متابعة السعي لإنجاح الجهود السلمية الدولية لإنهاء الأزمة السورية، فدون حل سياسي لأزمتنا يستحيل التوجه نحو إعادة الإعمار، وهذه المسألة لا ترتبط_ للأسف_ بالنوايا السورية الرسمية فقط، بل بتوافق مصالح جميع الدول المتداخلة بالأزمة السورية.

2- الاستمرار في ضرب المجموعات الإرهابية السوداء، وتجفيف بؤر الدعم والمساندة الداخلية لهذه المجموعات في جميع المناطق، وخاصة تلك التي كانت تحتضن هذه المجموعات.

3- استمرار عمليات المصالحات الوطنية في جميع المناطق، ودفع المجتمعات المحلية إلى ممارسة دورها في هذه المصالحات، توفيراً للدم السوري، والانفتاح على المعارضة السياسية التي لم ترتبط بالإرهابيين والتحالف الدولي المعادي لسورية.

4-صحيح أننا نتحدث هنا عن إنهاض الاقتصاد السوري، لكننا نرى أن هذه العملية لن تأخذ طابعها الشمولي والمجدي إلا بعد فرض هيبة الدولة على جميع المناطق السورية نظراً لتكامل قطاعات الإنتاج الصناعية والزراعية والنفطية في جميع المحافظات السورية.

5- عقد الحوار الوطني السوري – السوري بمشاركة جميع القوى السياسية والاجتماعية والدينية، والتوافق على سبل إنهاء الأزمة بالطرق السلمية، ووضع أجندة لتنفيذ طموحات السوريين السياسية  والديمقراطية والاجتماعية، والعمل على إحداث التغيير السلمي، والتأسيس لبناء سورية المتجددة، الديمقراطية، التعددية، العلمانية، المعادية للإمبريالية الأمريكية والصهيونية والرجعية السوداء.

العوامل الاقتصادية

إن حجم الأضرار التي لحقت بقطاعات الإنتاج الصناعي والزراعي والنفطي يشير إلى صعوبة المهمة التي يجب على الحكومة السورية التصدي لها، إذ يتطلب الأمر خطة حكومية محكمة، ومرنة في آن معاً، فمن المستحيل التصدي لهذه المهمة بضربة سيف قاطع، ودفعة واحدة، وأن تحدد هذه الخطة مشكلات كل قطاع على حدة، والأوليات الضرورية لإنهاضه، ومشاريع الإنشاء أو الإصلاح للبنية التحتية التي يحتاجها، وذلك ضمن برنامج زمني شبكي يتقاطع مع المشاريع الأساسية والخدمية الضرورية لجميع القطاعات الأخرى.

هذه الخطة الحكومية (الإنقاذية) يجب أن توضع بالتعاون مع ممثلي الرساميل الوطنية في الداخل وبلاد الاغتراب، وجميع القطاعات المنتجة في القطاعين العام والخاص، وخاصة مع الغرف الصناعية والتجارية، ورجال الأعمال، بعيداً عن فرض الرأي، والأساليب البيروقراطية التي اعتدنا عليها أثناء إعداد الخطط الخمسية في العقد الماضي.

هنا تندمج مهام إعادة إعمار سورية مع مهام تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمتوازنة.

 

ثانياً- الإعمار من جديد.. إشكالات واقتراحات

بداية نؤكد أن عملية إعمار ما خربته تداعيات الأزمة السورية هي عملية شاقة، وطويلة الأمد، بالنظر إلى ضخامة حجم الخسائر، وهي تتطلب برنامجاً حكومياً يتوافق مع الخطة الحكومية الاقتصادية، ونوضح هنا ونحن ندرك أن هذه العملية تفوق قدرات الدولة، خاصة بعد تناقص إيراداتها العامة، والاستنزاف المقصود للقدرات الاقتصادية والمالية، الذي سعت إليه دول التحالف المعادي لسورية بهدف أخذ سورية من بوابة الاقتصاد.

إن عملية الإعمار تتطلب توفُّر مصادر داخلية لتمويلها بالدرجة الأولى، وهذا يعني، حسب ما نرى، أهمية إنعاش الاقتصاد السوري كي يحقق التراكم الداخلي القادر على التمويل.

وهنا نصطدم بعقبة كبرى: كيف ننعش الاقتصاد الوطني في ظل بنية تحتية مهدمة بفعل جرائم الإرهابيين؟ وهل تستطيع قطاعات الإنتاج الصناعية والزراعية، وقطاع النقل والخدمات والتصدير، الانطلاق، بغياب البنى التحتية اللازمة لعملية الإنعاش؟

السؤال الأبرز هنا: بغياب التمويل الداخلي الآتي من نهوض الاقتصاد السوري، هل يمكن الاعتماد على الدعم والتمويل الخارجي لتنفيذ عملية الإعمار؟

إن بعض السيناريوهات الخارجية المعدّة لإعادة الإعمار تلجأ إلى تضخيم تكاليف هذه العملية، في محاولة لإظهار استحالة تنفيذها بالقدرات الوطنية السورية، لتصل إلى ضرورة الاعتماد على الخارج (القروض المصرفية – قروض البنك الدولي – قروض الشركات الأجنبية المنفذة – المنح المالية المشروطة – قروض وتسهيلات الدول الصديقة)، وهذا السيناريو يجب أن يترافق مع توجه اقتصادي يتوافق مع هذا السيناريو، أي بكلمة واحدة: تبنِّي سياسات اقتصادية نيوليبرالية ريعية، نخبوية، استناداً إلى آليات السوق الحر، ومنسجمة مع النماذج التي روّجت لها المؤسسات الدولية.

إن إعادة الإعمار بالاعتماد على الذات والموارد المحلية لا يعني استبعاد التمويل الخارجي بالاستناد إلى اتفاقيات القروض مع الدول الصديقة، فحجم الأموال اللازمة لعملية النهوض كبير جداً، وقد لا تكفي الموارد المحلية لأداء هذا الاستحقاق.

إن عملية الإعمار، بخصوصيتها السورية، تعني أكثر من البناء، والتصنيع، وإنتاج المحاصيل، لقد جعلت مجريات الأزمة السورية هذه العملية، وينبغي – حسب اعتقادنا- أن تجعلها خطة شاملة لبناء الإنسان السوري الجديد أيضاً، الإنسان الإيجابي، الديمقراطي، المتمسك بانسجام مجتمعنا الذي هدَّدتْه دعوات التطرف، والتفتيت الديني والطائفي، والارتقاء إلى مجتمع علماني يعطي (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، وهذه عملية قد تكون أكثر إلحاحاً وأهمية من البناء المادي للحجر والشجر.

 

ثالثاً- تمويل الإعمار

ونحن نرى أن إعمار ما تهدم لن يتحقق بالاستناد إلى سياسات اقتصادية كانت السبب في تحجيم قطاعاتنا المنتجة، وفي إثارة غضب الجماهير الشعبية، بل يتحقق بعد توافق السوريين على نهج اقتصادي تنموي، تعدّدي، استناداً إلى خطة مركزية حكومية، يساهم فيها القطاع الخاص والرساميل الوطنية، ولا تهيمن أو يهيمن عليها، خطة تضمن التوازن بين متطلبات النمو الاقتصادي الناتج عن قطاعات الإنتاج الحقيقي لا الريعي، ومتطلبات التنمية الاجتماعية، تتوزع على مدد زمنية محددة، ولتنفيذ هذه الخطة تُستخدم المواردُ المحلية الحكومية، ومساهماتُ القطاعات الخاصة المنتجة، كما يمكن الاستفادة من قروض الدول الصديقة والشقيقة، وقروض الصناديق المالية الدولية غير الخاضعة لهيمنة الأمريكيين، ومن برامج التنمية التابعة للأمم المتحدة، والمنح والتبرعات غير المشروطة، وسندات الخزينة المخصصة حصراً لتنفيذ مشاريع الإعمار، والاعتماد في تنفيذ هذه المشاريع على الشركات والمؤسسات الحكومية، خاصة شركات الإنشاءات العامة.

ونقول هنا صراحة: إن البعض يستعجل بدء عملية الإعمار، حتى قبل وضع الخطط الحكومية المناسبة، وقبل تدبير مصادر التمويل، وذلك بهدف اقتناص العقود، وتأمين (الشركاء)، وأخذ العملية برمّتها إلى المنحى الذي يُرسم لها في الدوائر الأجنبية و(المحلية) المشبوهة، ونرى ضرورياً أن نقول أيضاً: في ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها سورية، وبعد الخسائر الكبيرة التي تحملتها مختلف جهات القطاع الخاص – الذي عمد بعض رموزه إلى تهريب أمواله التي جمعها من أموال السوريين -، وبعد انسحاب الشركات الأجنبية مع أول قرار بالعقوبات وفرض الحصار الاقتصادي على سورية، سيكون من غير السليم الوقوع مرة أخرى في أخطاء دفعنا ثمنها في الماضي وما زلنا نعاني تداعياتها، ولتجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء، نرى ضرورة إحداث صندوق خاص تصب فيه الموارد التالية:

1- مبالغ التعويضات من الدول التي وقفت وراء العمليات التخريبية، وذلك بقرار دولي.

2-الأموال التي سيتم استعادتها من الخارج، والتي نهبت وسرقت أساساً من أموال الدولة والشعب.

وأن يوضع للصندوق نظام خاص، وإدارة ذات صلاحيات واسعة، على أن تتمتع بالنزاهة والشفافية والكفاءة والالتزام الوطني، ويعيّن لهذا الصندوق مجلس أمناء، يضم عدداً من أصحاب الكفاءة، إلى جانب ممثلين عن المتضررين وممثلين عن القطاعات الاقتصادية والخدمية.

وينبغي أن يتلازم إحداث هذا الصندوق مع برنامج شامل لإعادة النظر في التشريعات الاقتصادية، يعتبر الإصلاح الضريبي أهم مجالاته، كما تجرى عملية حصر لأملاك الدولة في القطاع العام والمرافق، بهدف تحسين الأداء فيها، ورفع نسبة إسهام مواردها في عملية التنمية والإعمار.

ونضيف هنا مسألة في غاية الأهمية، هي مكافحة الفساد، ومحاسبة من أثروا على حساب الوطن والشعب، واسترداد الأموال المنهوبة من خزينة الدولة. إن مكافحة الفساد تُعدّ حسب اعتقادنا عاملاً أساسياً في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فاستمرار وجود الفساد وتحكمه بمفاصل رئيسية، يجهض أي محاولة للنهوض.

سيبقى استحقاق إعادة الإعمار، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، مسألة خاضعة للنقاش والحوار في الداخل والخارج، لكننا كنا، وما زلنا نؤكد ضرورة حلّ هذه المسألة في الداخل عبر حوار وطني يشارك فيه جميع خبراء الاقتصاد السوريين عبر مؤتمر اقتصادي وطني.

 

basharmou@gmail.com

آخر الأخبار