افتتاحية العدد 1031 من جريدة “النور” | في الذكرى الثامنة والتسعين لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.. سنواصل نضالنا من أجل سيادة الوطن.. وكرامة الشعب

ثمانية وتسعون عاماً مرّت على تأسيس الحزب الشيوعي السوري، حزب الوطن.. حزب العمال والفلاحين.. حزب الجلاء والاستقلال.. والدفاع عن طموحات الشعب السوري إلى وطن حرّ ديمقراطي علماني.. وشعب سعيد.

ورغم الظروف الصعبة التي تمرّ بها سورية في مواجهتها لبقايا الإرهابيين، ومقاومتها للاحتلال الصهيوني والتركي والأمريكي، ورغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة الناجمة عن الحصار والعقوبات، ورغم الأزمة المعيشية المأساوية التي تطحن ملايين السوريين، وتقصير الحكومة في تلبية متطلبات المرحلة، يحتفل الشيوعيون السوريون وأصدقاؤهم، وجميع القوى الوطنية في البلاد، بالذكرى الثامنة والتسعين لتأسيس حزبهم، أحد أقدم الأحزاب السورية: الحزب الشيوعي السوري.

إن حلم العيش في مجتمع خالٍ من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، دفع الروّاد الأوائل، بوحي من انتصار البلاشفة في تحويل روسيا القيصرية إلى جمهورية سوفييتية في أكتوبر عام 1917، إلى تأسيس الحزب عام 1924 ليكون أداة لتحقيق هذا الحلم، وقرأ الناس على جدران ساحة الشهداء في بيروت نداء في عام 1925، يتضمن دعوة غريبة، كان نداء الحزب إلى جميع العمال والفلاحين.. جاء فيه: (نطلب من جميع العمال والفلاحين في هذه البلاد الشقيّة أن يتركوا أعمالهم في يوم أول أيار، ويبرهنوا للمتموّلين والإقطاعيين أنهم طبقة لها الحقّ في حياة حرّة)!

(الحياة الحرة) الحرّة من الاستغلال والفقر والجهل، الحرّة من كل مظاهر التخلف التي كرّستها أربعة قرون من ظلم العثمانيين، الحرّة من الاستعمار الأجنبي. فالمجد والخلود لذكرى فؤاد الشمالي، ويوسف يزبك، وفريد طعمة، وإلياس قشمعي، وهيكازو بوياجيان، وآرتين مادويان، وبطرس حشمي، وناصر حدّة، وفوزي الشلق، وخالد بكداش، وفرج الله الحلو، ونقولا الشاوي، ورشاد عيسى، وفوزي الزعيم، وغيرهم ممّن ساهموا في التأسيس والبدايات.

منذ تأسيسه، اقترن النضال الوطني للحزب، المتمثل بمقاومة الاستعمار الفرنسي من أجل الاستقلال التام، بنضاله ضد الإقطاع والاستغلال الطبقي.. وساهم في تأسيس النقابات العمالية، ودافع وما يزال يدافع عن مصالح الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة وحقوق المرأة السورية، وسمّاه البعض حزب الجلاء وحزب الخبز.. وفي عام 1931 طبع الحزب وثيقة برنامجية خرج بها إلى العلن، تتضمن أهدافاً سياسية واجتماعية (لماذا يناضل الحزب، وشيء من برنامجه).

وقف الحزب ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين.. وبعد التقسيم أيّد الحزب نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة.

وبعد جلاء الاستعمار الفرنسي، ساهم الحزب في الحياة السياسية السورية، تارة بصورة علنية، وأخرى بشكل سرّي أيام الدكتاتوريات العسكرية، وكان لأعضاء حزبنا شرف دخول المعتقلات دفاعاً عن حرية المواطن وحقوقه الدستورية والاجتماعية.. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية، كرّس الحزب نشاطه الأممي لدعم الاتحاد السوفييتي والجيش الأحمر خلال سنوات الحرب، وأسّس لجاناً من أجل السلم العالمي ومكافحة الفاشية.

في عام 1954 انفتحت أمام سورية أفاق جديدة مع انتهاء الحكم الديكتاتوري، وعاد حزبنا إلى العمل السياسي العلني، وشارك في الانتخابات النيابية ممثلاً للطبقة العاملة وجماهير الفلاحين والمثقفين، متحالفاً مع أحزاب وشخصيات وطنية رفعت شعارات العدالة الاجتماعية والتطوير الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، واستطاع إيصال أمينه العام الرفيق خالد بكداش إلى عضوية المجلس النيابي، كأول شيوعي يدخل برلماناً في الوطن العربي.

وناضل الحزب في تلك الفترة ضد المشاريع الاستعمارية الرامية إلى إلحاق سورية بمعاهدات مشبوهة كالهلال الخصيب، وفضح الهدف من مبدأ أيزنهاور (ملء الفراغ)، وتحجيم دور سورية كدولة وطنية، والتهويل من الخطر الشيوعي، وتطوّع الشيوعيون في صفوف المقاومة الشعبية للدفاع عن مصر التي تعرضت للعدوان الثلاثي عام 1956، وللدفاع عن سورية في وجه التهديدات التركية المدعومة من الحلف الأطلسي عام 1957.

ودعا الحزب الشيوعيين السوريين إلى التصويت بنعم للوحدة السورية المصرية، رغم تحفّظاته على بعض الأسس التي قامت عليها، ورفض حلّ الحزب، وأصدر بعد ذلك البنود الثلاثة عشر التي تضمن نجاح الوحدة، لكنه تعرّضّ لحملةٍ شرسة من الاعتقالات والملاحقات طالت قيادات الحزب وكوادره الرئيسية، وكان أخطرها وأشدّها قسوة وألماً تصفية شهيد الحزب وأحد أبرز قيادييه الرفيق فرج الله الحلو تحت التعذيب، هذه الجريمة التي لاقت الشجب والاستنكار من جميع القوى الاشتراكية وحركات التحرر الوطني والسلم في العالم.

خلال فترة الانفصال ورغم خروج رفاقنا من المعتقلات، عانى حزبنا الحصار والتضييق على نشاطه السياسي والنقابي، وشجب الحزب القرارات الحكومية التي ألغت العديد من القوانين الاقتصادية والاجتماعية الإيجابية التي صدرت في عهد الوحدة، وخاصة قانون الإصلاح الزراعي والتأميم.

بعد 8 آذار عام 1963 ووصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة، بدأت بذور التعاون بين الحزبين، وتوّجت بتمثيل محدود في المجلس الوطني، وتمثيل الحزب الشيوعي في الحكومة بوزير واحد.

وبعد الحركة التصحيحية عام 1970 فتحت آفاق التعاون بين حزبنا وحزب البعث العربي الاشتراكي، استناداً لما جاء في بيان القيادة القطرية المؤقتة، خاصة انتخاب مجلس الشعب، والإدارة المحلية، وتأسيس الجبهة الوطنية التقدمية، وتعزيز العلاقات مع الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية، وتعزيز القطاع العام ومنح المزيد من المكاسب للطبقة العاملة وجماهير الفلاحين.

وساهم حزبنا بصورة فعالة في حرب تشرين عام 1973، التي خاضتها سورية لاستعادة الأراضي المحتلة، ودعماً لنضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة في العودة وتقرير المصير وإنشاء دولته المستقلة، فتطوع الشيوعيون في الجيش الشعبي، وشاركت رفيقاتنا في منظومات الإسعاف والتمريض في المشافي، وكان لحزبنا شرف استشهاد 84 رفيقاً في هذه الحرب. ورغم تأييد حزبنا للسياسة الوطنية للبلاد، التي كان أبرز مظاهرها العداء للإمبريالية والصهيونية والرجعية، فقد وقف في الشأن الاقتصادي والاجتماعي ضد الإجراءات التي شجعت نمو الرأسمال الريعي والفساد والبذخ وتحجيم القطاع العام، وطالب بتنفيذ الخطط الخمسية التنموية، ورفع شعار استثمار النفط وطنياً.

لقد ناضل حزبنا ضد التطرف الديني، وتغلغل الفكر الرجعي، وفي ثمانينيات القرن المنصرم تعرضت البلاد لهجمة سوداء قامت بها تنظيمات إرهابية إقصائية متطرفة قادتها جماعة الإخوان المسلمين، وكان حزبنا وأعضاؤه هدفاً من أهدافها، واستشهد عدد من رفاقنا في العديد من المناطق السورية، لذلك ينبّه حزبنا اليوم إلى خطورة محاولات تجري لتبييض صفحة التطرف الديني وتسويقه تحت أيّ مسمّى.

وعند انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، تابع حزبنا نضاله الوطني والأممي وسط محيط من الدعوات الانهزامية في الداخل، والنظريات التي صدرت في الغرب، والتي اعتبرت سقوط هذه التجربة الغنية هو القاعدة، وبقاءها هو الاستثناء، وأن الرأسمالية خالدة إلى ما لا نهاية، مؤكداً أن الذي انهار كان تجربة غنية بكل ما فيها من إنجازات.. وإخفاقات، وأن مستقبل البشرية لن يكون خاضعاً لطغيان الامبريالية، بل لآمال الشعوب بالتحرر.. والسلم.. والأمن.. والعدالة.. والاشتراكية.

في بداية القرن الجديد، ومع بروز دعوات (الإصلاح) السياسي والاقتصادي، رأى حزبنا أهمية الانفتاح أكثر فأكثر على الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، وتوسيع الحريات الديمقراطية، ووقف تسلط الأجهزة الأمنية على حقوق المواطنين الدستورية، وقدّم برنامجاً ديمقراطياً واجتماعياً متكاملاً.. وأمام دعوات (الإصلاح) الاقتصادي التي كانت ستاراً لرؤية نيوليبرالية تسعى إلى أخذ الاقتصاد السوري باتجاه اقتصاد السوق الحر من جميع القيود الاقتصادية والاجتماعية، وقف حزبنا في مواجهة هذه الرؤية، والإجراءات الاقتصادية التي عبّرت عن مضمونها، وأكد أهمية تركيز الجهود للنهوض بقطاع الدولة الصناعي والخدمي، وتشجيع القطاعات الاقتصادية المنتجة، لا المشاريع الريعية والعقارية المخصصة للنخب الثرية التي برزت كالفطر في هذه الفترة، وطالب بوقف تحرير التجارة الخارجية دعماً للإنتاج الوطني، وحماية القطاعات الاقتصادية حتى يتسنى لها المنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية. وبعد عام 2005، وعند تبني اقتصاد السوق الاجتماعي قولاً، واقتصاد السوق الحر فعلاً، طالب حزبنا بمراجعة سياسية واقتصادية واجتماعية تتضمن فصل السلطات، وتعديل الدستور، وإلغاء حالة الطوارئ، وإصدار قانون الأحزاب والإعلام، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، ومراجعة النهج الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، وخاصة بعد اشتداد معاناة الجماهير الشعبية بسبب السياسات الاقتصادية الريعية.

عند اندلاع الأزمة في البلاد، وبعد ما حلت تنظيماتٌ مسلحة محلَّ المسيرات السلمية التي رفعت بدايةً شعارات سياسية واجتماعية ، وزاد استغلال الخارج وعملائه في الداخل لما يجري في البلاد، وتحول سورية إلى محجّ لإرهابيي العالم، الذين ارتكبوا المجازر بحق المواطنين السوريين، وهدموا وأحرقوا جزءاً هاماً من بنية البلاد الاقتصادية ومرافق البنى التحتية، عند ذلك تزامنت دعوتنا إلى حل الأزمة سلمياً عن طريق الحوار الشامل مع جميع القوى السياسية والدينية والاجتماعية الوطنية، مع الدعوة إلى مقاومة الإرهاب الذي استشرى وتشظّى إقليمياً وفق الخطط التي وضعتها الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها.

العالم اليوم ينظر بأمل إلى إنهاء  مرحلة وحدانية القطب الأمريكي، الذي تحكّم بمجمل السياسة والاقتصاد العالميين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واستخدم أكثر الوسائل  وحشية وعدوانية، وأشعل الحروب في مناطق عديدة في العالم، بهدف الحفاظ على سيطرته، ومنع  بلدان العالم من اختيار سياساتها الوطنية، وطريق تطورها المستقل، ويساند الشيوعيون في جميع البلدان تحول العالم إلى فضاء متعدد الأقطاب، يضمن الأمن والاستقرار العالميين، ويفتح الآفاق أمام  شعوب العالم لاختيار سياساتها الوطنية بعيداً عن التهديد والضغوط والحصار والعقوبات وإرسال البوارج الحربية.

إن جوهر سياسة حزبنا في المرحلة الحالية، التي تشهد فيها بلادنا تغوّل الامبريالية الأمريكية المتحالفة مع الصهيونية العالمية لاستباحة الشرق الأوسط برمّته، تتلخّص في مواجهة الاحتلال الصهيوني والأمريكي والتركي للأرض السورية، ومقاومة محاولات الكيان الصهيوني والمطبّعين معه وأد حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في العودة وتقرير المصير، ودعم صمود شعبنا وجيشنا للحفاظ على استقلال سورية ووحدة ترابها ومنع تقسيمها تحت أي مسمّى، والعمل على عودة الانسجام لنسيجنا الاجتماعي والإثني المتنوع، وتأييد الجهود الداخلية والدولية الصادقة الساعية إلى حل الأزمة السورية بالطرق السياسية، وعقد الحوار الوطني الشامل بمشاركة جميع الأطياف السياسية والاجتماعية والإثنية، والتوافق على إنهاء الأزمة، وتحديد مستقبل بلادهم الديمقراطي.. العلماني.. المعادي للإمبريالية والصهيونية، وبذل الجهود الحكومية لتخليص المواطنين من أزمتهم المعيشية التي تحوّلت إلى كابوس مخيف، عبر زيادة تدخّل الحكومة في الأسواق باستخدام أدواتها المالية والإنتاجية والرقابية، واستمرار الدعم المتعدد الأشكال للفئات الفقيرة والمتوسطة التي تعد السند الحقيقي لصمود سورية.. ووضع حدّ للفساد الذي أصبح يتحكم بمفاصل رئيسية في الاقتصاد والإدارة.

وبمناسبة احتفالنا بالذكرى الثامنة والتسعين لتأسيس الحزب، نجدّد نحن في الحزب الشيوعي السوري الموحد، العهد لوطننا، ولشعبنا، بأننا مستمرّون في نضالنا، إلى جانب جميع الشرفاء في سورية، من أجل وطن حرّ وشعب سعيد.

عاشت الذكرى الثامنة والتسعون لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.

سورية لن تركع.. وستقاوم بقايا الإرهابيين والمحتلين الصهاينة والأمريكيين والأتراك وحلفاءهم.

راية الاشتراكية لن تنكّس في سماء سورية.

المجد والخلود لشهداء الحزب والوطن.

آخر الأخبار