ما بين الإدارة بالتضخم وإدارة التضخم

الدكتور سنان علي ديب:

من المؤكد أن لكل ظرف سياسات خاصة به، وطالما قلنا إن الظروف الاستثنائية تتطلب قرارات استثنائية والالتفاف واستيعاب سلبياتها بأقل الأخطار الممكنة، وهي بحاجة إلى حنكة ومرونة وشرعنة وقوننة سلوكيات كانت تعد سابقاً مخالفات وجنايات ومرفوضة قانوناً، ولكن تكريسها وفرضها بعد زوال المبررات يعيدها لخانة اللا شرعية واللا مقبولة ويجب الإحاطة بها وضبطها ومعاقبة من يقترفها، وهو ما وجدناه بطرق تأمين المواد الضرورية عبر طرق مختلفة ومنها التهريب، وذلك بسبب نقص الموارد والخناق والحصار والإرهاب الاقتصادي الذي فرض أساليب مختلفة ومنها ما كان سياقاً يعمل به كجسر لما بعد، وكذلك كجسر للتفاعل والتعامل مع المنحى الدولي والعالمي، وهو ما كان مرفوضاً ويواجه معارضات وتحديات، ومنها التحكم بالطلب عبر التضخم وقد سخر له أدوات وبرامج وسياسات مختلفة عكس ما تعلمناه وعرفناه، ولكن بنظر القادة الغاية تبرر الوسيلة. طبعاً كانت تحوي على الكثير من الثغرات وممزوجة بفساد لأهواء شخصية ولتحقيق مصالح ضيقة، ولكنها كانت في مسار ما فشل فرضه قبل الأزمة. وما يهمنا اليوم وفي ظل معاناة كبيرة نتيجة هذه السياسات بفقر وفاقة ومعاناة كبيرة، وفي ظل تراخي أو لا مبالاة ومنها ما نجده ووجدناه بفوضى الأسعار، وذلك رغما مما أخذه هذا الموضوع من جهد وعمل ومتابعة وتوجهات، واللافت كان تبرير وتهيئة لها من قبل شخصيات مسؤولة دورها مواجهة هذه الفوضى وتصريحات بعيدة عن المنطق والواقع، وبالتالي أصبح المنطوق الاقتصادي بعيداً عن سياساتهم وانعكاساتها وسط استغراب المختصين وزيادة ألم المواطنين.

ومن السياسات المساعدة ما وجدناه بدور السياسات النقدية والمالية في إدارة التضخم والإحاطة به وضبطه بحدود عليا خمسة بالمئة كحد أعلى، وهذه المهمة ضمن الظروف القاسية كانت صعبة جداً، ولكن الذي حصل العكس وهو إدارة الطلب وتهيئة الظروف للوصول إلى بيئة معينة لبرامج يعتقد أنها مناسبة، ومن الممكن السيطرة والتحكم باقتصاد البلد عبرها.

وبالتالي سار الفريق الاقتصادي بالإدارة بالتضخم بدلاً من إدارة التضخم، وهو ما وجدناه من سياسات مالية واقتصادية.

بانت نتائجها بوضوح ولكنها كانت قاسية وبحاجة إلى جهود كثيرة لتقويض سلبياتها والتحكم بمفرداتها للوصول إلى آليات وقرارات تنعكس على التنمية بكل أنواعها وتوزعها وتصاعدها، وما نجده يدل على بوادر نور بهذا الإطار، فما مورس وتحمل الغالبية العظمى من المواطنين منعكساته الصعبة والقاسية وازدادت تأثيراته وآثاره على قسوة معيشتهم وعلى حالتهم النفسية والاجتماعية من فقر وحاجة وتباعد وفوضى وانهيارات أخلاقية وعدم تحمّل ووهن وضعف عام، وبالتالي استعمال التضخم كأسلوب أو نهج اقتصادي للحد من الطلب، في ظل الحديث عن قلة الموارد والإمكانات مع الاستعانة بالبطاقة الإلكترونية قد أمن حاجات بحدودها الدنيا ووفر موارد، وهو ما وجدناه من عرض المازوت والبنزين بأسعار محررة للمواطنين على أن تستمر مخصصات النقل والمواطنين، وعلى منعكسات ونتائج الحرب بأدواتها الارهابية المختلفة، ولكن هذه السياسات التضخمية ما بين فوضى أسعار وضرائب ورسوم وسياسات نقدية أدت إلى جمود وركود تضخمي واستثمرها البعض لمجالات أخرى، وبالتالي فاق التضخم العام الإمكانات والحدود وسط أرقام تقديرية لحاجة أسرة من ٥ أشخاص بين مليون ونصف المليون ليرة، ومليون ومئتي ألف لتتجاوز خط الفقر وتأمين متطلبات المعيشة، في حين كانت تحتاج ثلاثين ألف ليرة قبل الحرب. اللافت قبل الاحتواء والسيطرة على المفاتيح من قبل الإدارة الاقتصادية كان هناك تعمد من المؤسسات المنوط بها التدخل فوضى أسعار ورفع دائم واختياري متناغم مع مضاربات على الدولار، يكرس عبر الأسعار المضخمة وكان هناك سلوكيات مبرمجة لتكريس هذا السلوك عبر استخدام كل وسائل التواصل والدعايات وتغاضي الجهات المسؤولة وهو ما دفع لإصدار قرارات ومنها القانون ٨ لكبح ومواجهة التلاعب بالأسعار، واستمر السلوك واستمرت اللامبالاة كل هذه السلوكيات أوصلت لمفترق طرق صعب، ولكن من الواضح إمكانية السيطرة عليه ضمن خطط واضحة وضمن رؤى ممكنة.

إن كان السلوك الماضي والإدارة بالتضخم طريقاً وجسراً لإدارة مسيطرة للانطلاق إلى برامج واقعية مرنة ضمن أهداف واضحة اقتصادية واجتماعية لتحقيق أهداف تنموية، فالخريطة واضحة والطريق واضح، ولابد من التشاركية بين كل القطاعات والتعاون بين كل الخبرات والكفاءات لاستكمال المسير وضمن الظروف المحلية والإقليمية، فالطريق أصبح أسهل، وإن كان هو الغاية فهنا الكارثة لأن انعكاساته قاسية وقاتلة ومدمرة ضربت المجتمع أفقياً وعمودياً وكانت محابية لقلة قليلة، وهو سيؤدي لصدامات وعدم استقرار.

وإن كانت ضمن مبدأ خلافات أو فروض بلا خطط فهنا يكمن نبع الممكن أو الأمل، وذلك بسبب الكثير من الثغرات والأخطاء المكشوفة والتي من إصلاحها ومواجهة القائمين عليها سيكون النهج الاقتصادي الاجتماعي القادر على حل أغلب المشاكل والمحقق للعدالة الاجتماعية، التي هي طريق دستوري والمؤسس لسورية القادمة.

لم تعد الظروف القاسية بمنعكساتها النفسية الناجمة عن سلوكيات اقتصادية واجتماعية تنتظر تنظيرات فكرية وتخندقات كأطر حوربت ودمرت بلدان من أجلها، ولكن الفكرة الأساسية القائمة على العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة وتطبيق القانون لتحقيق غايات تصب بهذا الإطار.

العلاجات الآنية مطلب ملح والمتوسطة للوصول إلى العودة القوية.. ولكن بأدوات كهذه وشخوص مقولبة ستصعب المهمة.. بحاجة إلى جهود الجميع وأفكارهم وبحاجة إلى التعاون وليس للعداء أو الابتزاز أو لجوء البعض للاقتصاص ولكسب المزيد عبر رؤى وابتزازات، في ظل ظروف أصعب ما تكون: خناق حصار بازارات دولية.. الإطار العام هو برنامج واضع الأهداف والغايات، وأدواته تشاركية كفاءات وخبرات وطنية مؤمنة وجادة بالعمل لأجله.

كانت انعكاسات الإدارة بالتضخم صعبة وقاسية، وحان الوقت لإدارة التضخم عبر هندرة اقتصادية تحقق المطلوب.

آخر الأخبار