على رصيف الوطن..

التقينا بعد حرب أخذت منّا منازلنا، كنا من كل الأعمار، والفئات، جلسنا نتسامر ونستعيد ذكريات كانت ذات يوم تحت سقف بيتنا القديم حول المدفأة وشعلة نور، وعلى لساننا جميعاً عبارة (لعلّ الفرج قريب! أو: كم نتوق لتعود تلك الأيام القديمة!).

حياتنا نحن السوريين باتت باردة مثل ليل كانون، تشرّدنا مع أننا تحت سقف الوطن، كبيرنا أضحى يعدُّ أيام الخلاص مع تنهيدة طويلة على أيام كان يحتضنه فيها منزل بجدران وسقف، وعلى أكتافه غطاء وتحته فراش ناعم وحوله أبناؤه ومائدته عامرة، وهو يتساءل اليوم: ما الذنب الذي اقترفه ليغدو في آخر أيام عمره مشرداً على رصيف الوطن، ينهش البرد عظامه ويصفر الجوع في أمعائه الخاوية، يمدُّ يده للمارة علّه يلتقط فتاتهم ليقتات بها من جوع كافر.

لا يختلف المشهد عن صغيرنا الغارق في نوم عميق، محتضناً حذائءه في طقس بارد، لا دمية تؤنس ظلام الليل المخيف، فتبعد عنه شبح الرعب في هذه العاصفة الحزينة كحزنه على منزله المُدمّر، ووالدته المُحتفظ بصورتها بين ثنايا أفكاره كحلم وردي غيّبها الموت وأبعدها عنه فلم تعد ملاكه الحارس، فغدا ضائعاً في أزقة الوطن نهاراً ومفترشاً رصيف قهره ليلاً.

نعم، نحن مشرّدون في وطن كان يوماً ما يفتح أبوابه لكل قاصد رزق، وكل عابر سبيل، وكل باحث عن العلم والحضارة، وكل سائح أراد أن يزيّن دفتر ذكرياته بصور الحضارة الدمشقية، واليوم ضاق بناسه وأغلق أبوابه بوجههم قبل الجميع، وها هم يغرقون بجملة قوانين تُحدّد لهم عدد أرغفة الخبز، وقطرات المازوت، وساعات الدفء!؟

هنا بتنا نرى على أرض الواقع، لا في الأساطير والروايات، من يموت من البرد والجوع، فكم من طفل مات من البرد وهو في كنف أهله وبين جدران منزله بسبب الفقر وغياب وسائل التدفئة من كهرباء ووقود وغيرها! وكم من مُسنٍّ أيضاً غيّبه الموت بسبب البرد وقلّة الطعام وفقدان الدواء! ويزداد الوضع أسىً أكثر فأكثر برفع الدعم عن المواطنين في ظلّ غياب كل مقومات الحياة وندرتها، وإن وجدت تكون بسعر باهظ لا مقدرة لمعظمنا على شرائها، بسبب احتكارها من قبل تجار السوق السوداء، وهنا ستزداد روايات الموت والنعيات يوماً بعد يوم برعاية قرارات الحكومة الكريمة الممهورة بختم البرد القارص والصقيع، ومع الأسف الشديد مازالت حكومتنا الكريمة تسنُّ قوانين تستقدمها من المريخ وتفرضها علينا، بدل أن تفتح أبواب منظماتها ودور رعايتها للمشرّدين وخاصةً المُسنّين منهم ممّن لم يعد في عمرهم متسع لتحمّل قساوة البرد والجوع والمرض، وحتى أطفالها هم بحاجة لرعاية واهتمام ليكونوا كوادر فعّالة في المجتمع بعد تأهيلهم من حرب أنهكت قواهم وقوى هذه البلد، فبدل أن تقتلوا عزيمتنا بقرارات تعسفية، أنعشوا عطاءنا برعاية ودعم كي نبني نحن وأنتم ما بقي من وطننا بعد حربه القاسية، لا تجعلوه يضيق بنا لنموت في رحابه من البرد، ونحن نعلم أن باطنه مليء بالوقود وأرضه منبع للخيرات، فلماذا فقدنا فيه الخير ومتنا على أرضه من قلّة الخير!؟

نأمل النظر جيداً بقرارات مفصلية لكي لا تكون يوماً ما سبباً لخروج الشعب بجوعه الكافر عن صمته، وهنا سيُهدم الوطن أكثر ممّا هو مُهدّم.. لذا ضعوا مُسنّيه في أماكنهم المناسبة حتى يكونوا عوناً للشعب بقرارات تصدر من رحم المعاناة لا من خارج سورها، كي لا يُهدم السور وتزداد المعاناة فيكتظُّ الرصيف بنا جميعاً.

آخر الأخبار