الحزب الشيوعي السوري وقضية الوحدة العربية

يشكل موضوع الوحدة العربية، أحد القضايا الإشكالية الكبرى التي جابهت الحزب الشيوعي السوري، واستدعت نقاشاً واسعاً، فيما بين الشيوعيين أنفسهم وبينهم وبين الآخرين. وجرى نقد بل هجوم، على الحزب الشيوعي السوري، بأنه ضد الوحدة العربية بشكل مطلق، أو أن موقفه كان متأرجحاً، بل غير واضح بشكل كاف بالنسبة للوحدة السورية ـ المصرية.

واشتد النقاش في الحزب حول هذا الموضوع. وعندما أصبحت الوحدة قضية آنية، وواقعاً ملموساً، أُخذ على الحزب غياب ممثله عن جلسة البرلمان التي أقرت قانون الوحدة. ودفع الحزب الثمن غالياً جداً بمنع نشاطه واعتقال آلاف الشيوعيين وزجهم في السجون.

وضع الحزب الشيوعي السوري هدفاً أساسياً له، هو تحقيق الاستقلال الوطني، وحماية هذا الاستقلال، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي. كما وضع شعار إقامة بناء الاشتراكية في سورية، وجند كل قواه في هذا السبيل. وكانت القضية الطبقية هي محور حركته، ونظر إلى القضية القومية بمنظار سلبي، ولم يفرق تماماً، في هذا المجال بين التعصب القومي والانتماء القومي. بين قومية الدول الاستعمارية، قومية اضطهاد الآخرين والسيطرة عليهم ونهب خيرات بلادهم، وبين قومية الشعوب المضطهدة التي تناضل لرفع نير الاحتلال الاستعماري عن كاهلها، والتي لعب العامل القومي دوراً هاماً في تعبئة مشاعرها ونضالها ضد الاحتلال.

ويمكن القول إنه كان للحزب الشيوعي السوري، أكثر من موقف في قضية الوحدة العربية. ففي مراحل النضال ضد الاحتلال، وخاصة في مرحلة الثلاثينيات، اتخذ الحزب مواقف إيجابية بشأن موضوع الوحدة العربية ومفهوم الأمة العربية، واعتبر مكونات الأمة قائمة، وأنها أساس الموقف الوحدوي للحزب. وفي هذه الفترة، كان التقارب الأساسي، مع التيار القومي الذي مثلته عصبة العمل القومي، واستمر الموقف تجاه الوحدة العربية صائباً في الأربعينيات بل وحتى الخمسينيات. وفي الخمسينيات عندما بدأت تبرز الظروف السياسية والاجتماعية والذاتية للوحدة، وخاصة بين مصر وسورية، بدأ الحزب يطرح مواقف فيها طابع التردد، بل حتى طابع الرفض.

وبعد انهيار الوحدة السورية ـ المصرية، عاد الحزب واتخذ مواقف إيجابية انعكست بوضوح في تقرير اللجنة المركزية الذي قدم إلى المؤتمر الثالث، بل وجرى فيه تفسير الموقف السلبي من دولة الوحدة، بأنه عامله الأساسي، هو قرار حل الحزب الشيوعي السوري، وليس رفض الوحدة ذاتها.

وكانت الوحدة العربية، والقضية القومية عموماً، إحدى الجوانب الأساسية للصراع الذي نشب في الحزب قبل المؤتمر الثالث وبعده، والذي انتهى بالانقسام الكبير الذي وقع في أوائل السبعينيات وأدى إلى نشوء حزبين شيوعيين: الحزب الشيوعي السوري، والحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، وانعكس ذلك في العديد من المواقف والمقالات والتعليقات التي حفلت بها صحافة الحزب ووسائل الإعلام العربية المختلفة.

وقد أصبح موقف الحزب واضحاً بشكل كامل بعد انقسام عام 1985 والذي أدى مجدداً إلى وجود حزبين كل منهما يحمل اسم الحزب الشيوعي السوري. وانعكس ذلك، بقوة، في وثائق المؤتمرات السادس والسابع الموحد والثامن، وفي الوثيقة البرنامجية، وأصبحت الوحدة أحد الشعارات الأساسية التي يناضل الحزب في سبيلها. وكان شعار الوحدة، يتصدر صالات هذه المؤتمرات، ويقف على مستوى واحد، مع شعار الاشتراكية.

لقد تطور موقف الحزب من قضية الوحدة، مع تطور مراحل النضال: ففي الوثيقة البرنامجية الأولى التي صدرت في تموز 1930 لا نجد أية إشارة إلى موضوع الوحدة. والنص الوحيد الذي يتحدث عن التضامن، يقول:

»فللقضاء على الاستعمار، يجب أن يسود الإخاء والتضامن بين جميع الشعوب المظلومة، وإيجاد جهة متحدة بينها للنضال ضد الاستعمار، وأن تتحد مع طبقة العمال العالمية التي هي العدو الأكبر للاستعمار، وذلك للقضاء على الاستعمار وسحقه سحقاً نهائياً«. وفي عام 1934 خطا الحزب الشيوعي خطوة هامة، فقد عقد في مدينة زحلة اللبنانية مؤتمر لمثقفين شيوعيين وقوميين عرب وغيرهم، وصدر عنه بيان يحمل العنوان التالي: »في سبيل الوحدة العربية«. وتناول هذا البيان التطور التاريخي للأمة العربية، وبين أن الدين كان عامل التوحيد والدافع للرقي والفتوحات. وأوضح أنه رغم مرحلة التراجع والتفكك، فقد بقيت عوامل الوحدة تعمل فيها من حيث لا تشعر، فكانت اللغة العربية والعادات العربية الواحدة شاملة جميع الأقطار العربية من غير استثناء. وظهرت نتيجة عملها في القرن التاسع عشر مع اشتداد نزعة القومية في العالم العربي.. ويتابع فيقول »أما اليوم، فقد بدأ الشعور القومي يظهر بطريقة نضالية، وبدأت الأمة العربية ترفع عنها كابوس الاستعباد، بجهود شعوبها الجبارة، فلم يبق إلا أن نعرف الطريق الذي يجب أن تسلكه لتتم به الوحدة العربية…«.

وطرح البيان برنامجاً من أربعة عشر نقطة تقول:

1 ـ القضية العربية قضية قومية بحتة، وهي قضية أمتنا العربية.

2 ـ أمتنا العربية هي القاطنة في العالم العربي والمرتبطة بصلات اللغة والثقافة والتاريخ والتقاليد والمصالح والآمال الواحدة.

3 ـ وطننا العربي هو البلاد الواقعة ضمن الحدود التالية: جبال طوروس والبحر المتوسط من الشمال، والمحيط العربي وجبال الحبشة وصعيد السودان والصحراء الكبرى من الجنوب. والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط عند سواحل الشام من الغرب وجبال إيران وخليج البصرة من الشرق.

4 ـ العربي هو كل من لغته الأصلية العربية أو يسكن الأقطار العربية، وليست له في الحالتين أية عصبة تمنعه من الاندماج في القومية العربية.

5 ـ هدف القضية العربية إيقاظ أمتنا وتنظيم عناصرها في دولة مستقلة متحدة متحضرة.

6 ـ القضية العربية وحدة تامة لا تتجزأ ولا يمكن أن تتنافر أجزاؤها.

7 ـ كل عصبة إقليمية أو جنسية أو طائفية تنشأ في وطننا العربي هي قوى هدامة يجب القضاء عليها أو إذابتها في العصبة القومية الجامعة.

8 ـ البلاد العربية ملكنا، وكل اعتداء عليها اعتداء على أنفسنا.

9 ـ لأمتنا العربية تاريخ مجيد، ولها على المدنية فضل كبير فنحن نفتخر بكوننا عرب.

10 ـ أشد أعداء بلادنا الاستعمار والفقر والجهل والرجعية الاجتماعية والتعصب الديني، فلنحاربها بكل جهودنا.

11 ـ لا يفصلنا عن إخواننا العرب، دين أو مذهب، بل تتحد عقائدنا في خدمة قضيتنا.

12 ـ حياة بلادنا برفاهها الاقتصادي، فليكن هذا هدفنا في جميع أعمالنا.

13 ـ كل من يخل بواجبه نحو أمتنا هو عضو فاسد في جسمنا، فلنقطعه ولندسه بأقدامنا.

14 ـ تدخل الدين في السياسة والدولة أساس مصائب بلادنا، فواجبنا أن نسعى لفصلهما فصلاً تاماً.

بعد ذلك يأتي البيان الذي يقع في أكثر من سبع صفحات كبيرة على شرح العديد من القضايا: الموقع والتاريخ والمصلحة، العراقيل وكيف نذللها، كيف تبدأ، الهدف المنشود، على أي شيء تعتمد… وينتهي البيان بالقول: »إن خلاصنا لا يأتي دفعة واحدة، وهذا لايغير شيئاً من هدفنا الذي نرمي إليه، فكلما تحرر قسم منا يساعد القسم الآخر على التحرر، إلى أن يأتي يوم نسير فيه معاً إلى الأمام«.

»إن عدونا واحد، هو الاستعمار، ويجب أن يكون هدف كل الدول الخاضعة للاستعمار، أو لأي شكل من أشكال النفوذ الأجنبي واحداً، وهو مقاومة الاستعمار والنفوذ الأجنبي…«.

وفي عام 1936 التقى مسؤولون شيوعيون من العراق وسورية وفلسطين وأصدروا بياناً إلى جميع أبناء شعوب الشرق العربي نددوا فيه بما سمي في حينه بالحكم الوطني والاستقلال الذاتي للعراق. في ظل الاحتلال البريطاني ومما جاء فيه:

»هل هذه هي الوحدة التي يريدون منا تأييدها؟ أم هل الوحدة أن يصير الشعب والمخلصون من قادته إلى هذا المصير المؤلم، وهل من الحق أن نلحق نحن شباب هذا الجيل الشاعرين بكل المساوىء الواقعة على أكتافنا من المسؤوليات الاجتماعية، هل من الحق أن نركض وراء وهم الوحدة التي يدعو إليها من لا يهمهم مصالح شعوبهم ومستقبل مجتمعهم…

»نحن لم نعد نرى من نوع الدعوة إلى الوحدة التي كانت تدعو إليها عصابات المتآمرين، غير استهتار بشعوبنا وتاريخنا ومستقبلنا، لم نعد نرى في الوحدة غير توحيد نضال جماهير الشرق العربي ضد الإمبرياليزم والاستعمار والحروب، مستمدين قوتنا من تنظيم مجتمعات شعوب الشرق العربي على الأساس الذي يلائم روح العصر ويوافق أشكال التنظيم والنضالات القائمة في العالم، ومستمدين قوتنا من تاريخ الشرق العربي ومن الاندماج في العمل على رفع البؤس والشقاء والأمراض اللاحقة بشعوبنا…«.

وهكذا يتبين بوضوح، أن مهمة النضال ضد الاحتلال هي المهمة الأولى.

وفي سنوات الثلاثينيات، ركز الحزب الشيوعي السوري على شعار الوحدة السورية. فقد كان مخطط الاحتلال تقسيم سورية إلى عدة دويلات: دولة دمشق، دولة حلب، دولة الساحل، دولة جبل العرب، وبذلت محاولات لإيجاد دولة الجزيرة. وقد خطا الاحتلال الاستعماري الفرنسي، خطوات جدية في هذا المجال، فقد توجه أولاً لفصل لبنان عن سورية، وبدأ بوضع أسس الدويلات السورية المذكورة. وكان موقف الحزب من هذا المجال منسجماً مع مواقف القوى الوطنية كالكتلة الوطنية وغيرها من الأحزاب.

فقد نشرت »نضال الشعب« في عددها العاشر الصادر في الأول من نيسان 1936 كلمة الحزب حول الوحدة السورية. وقدمت لها بما يلي: «على إثر حوادث سورية الأخيرة والمفاوضات التي جرت بين دي مارتيل[1] والكتلة الوطنية والتي انتهت بتأليف وفد للذهاب إلى فرنسا للمفاوضة، ارتفعت الأصوات من مختلف الجهات اللبنانية والعلوية والدرزية وغيرها أيضاً طالبة وحدة البلاد السورية التامة.

»في الوقت نفسه عقد فريق من التجار والمشتغلين بالسياسة مؤتمراً أطلقوا عليه اسم (مؤتمر الساحل)، لم ينته إلى نتيجة ملموسة. إذ إن قسماً كان يريد الوحدة السورية وقسماً آخر يريد إلحاق الأقضية الأربعة بسورية وإبقاء لبنان منفصلاً، وقسماً آخر يريد الرجوع إلى لبنان الصغير وجعل بيروت مرفأ حراً…«.

تجاه هذه الحوادث، خصوصاً مايرتبط فيها بلبنان والوحدة السورية، لم ير حزبنا بداً من إعلان موقفه بالنداء التالي:

»جزأ الاستعمار الأوربي بلادنا العربية إلى دويلات وولايات، ففصل بين فلسطين وشرق الأردن والعراق من جهة وبينها وبين سورية من جهة أخرى. وسورية التي شطر عنها المستعمرون جزءها الجنوبي، فلسطين، جزأها الاستعمار الفرنسي أيضاً تجزئة معيبة، فخلق فيها دولاً وألوية »مستقلة« لم يكن للبلاد عهد بها من قبل.

»ولأجل تبرير هذه التجزئة تذرع رجال الاستعمار بحجج واهية لا تستند إلى أساس تاريخي أو اقتصادي ولا قومي أو ثقافي، وغايتهم الحقيقية من وراء ذلك، تسهيل اقتسامها من جهة وإضعافها لكي يسهل عليهم حكمها، من جهة أخرى.

»وقد عمل رجال الاستعمار، بمعاونة بعض النفعيين والمرتزقة الذين لا تخلو منهم أمة، على خلق فوارق موضعية بين الجزء والآخر من البلاد واجتهدوا ما بوسعهم الاجتهاد لتغذية هذه الفوارق، ولم يحجموا عن استعمال مختلف أساليب الإرهاب والضغط والتبشير لمنع الشعب من إبداء رأيه، حتى إنهم عزلوا على الفور أحد الموظفين لأنه تجاسر على الاشتراك بتوقيع برقية يطلب الوحدة السورية.

»ولكن الشعب الذي قاسى وما يزال يقاسي، أوجع النتائج من جراء هذه الأوضاع الشاذة المخالفة لرغبة البلاد الطبيعية لم تزده هذه التدابير إلا تمسكاً بوحدة بلاده وتعلقاً بوصل أجزائها المبعثرة لأنه أدرك أن التجزئة فوق ما تجره على الشعب من الضعف السياسي والمعنوي والوطني، وفوق ما تخلق من بلبلة في صفوفه، وتفسح المجال للدساسين والنفعيين ليمارسوا أعمالهم بغاية السهولة، تحمله نفقات أربع حكومات، كل منها مبطنة بجهاز آخر من المستشارين والمتعاونين والمفتشين الفرنسيين ذوي الرواتب الضخمة يتناولونها من جيوب هذا الشعب، المنهوك القوى بسبب الضرائب الفادحة المباشرة وغير المباشرة«.

»إن شعبنا لا يبلغ عدده ثلاثة ملايين لا طاقة له على احتمال مثل هذه التدابير، فضلاً عن البواعث القومية والتاريخية والاقتصادية التي تقضي بضرورة وحدة سورية«.

كان هذا الجانب من نضال الحزب الشيوعي السوري، واضحاً، وكان النضال ضد سلخ لواء إسكندرون جزءاً من هذه السياسة الوطنية المبدئية. فقد وقف الحزب ضد المؤامرة الإفرنسية ـ التركية، التي قضت بضم لواء إسكندرون، وبضمنه، مدينة أنطاكية إلى الكيان التركي، مقابل موقف تركي ممالىء للحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وشكل الحزب لجنة وطنية، إضافة إلى الدور الوطني الهام الذي لعبته منظمة الحزب في مدينة إسكندرون لفضح هذه المؤامرة وتعريتها.

في 18 كانون الأول 1937 أصدرت اللجنة المنطقية للحزب الشيوعي في لواء إسكندرون بياناً إلى شعب اللواء جاء فيه:

»… إن الحزب الشيوعي السوري الذي يناضل في سبيل الحرية الوطنية والاشتراكية لجميع سكان اللواء، وفي سبيل حكومة ديمقراطية إنسانية، كان أول من احتج على قرار عصبة الأمم، ذلك القرار الجائر الذي يفصل اللواء عن وطنه الأم سورية، والذي قُرِّر رغماً عن إرادة شعبي سورية واللواء، والذي يعرض حياة اللواء الوطنية والاقتصادية إلى أخطار كثيرة.

»ورغماً عن هذا القرار الموقع من قبل الحكومتين التركية والإفرنسية نجد أنفسنا منذ أيام قلائل أمام سلسلة من تحديات وهجمات تقوم بها حكومة أنقرة وعملاؤها الكماليون الذين يبتغون استعباد شعب اللواء، وأكبر دليل واضح على هذه التحديات المتتابعة، القرار القاضي بمنع رفع العلم السوري على الدوائر الرسمية ابتداء من 29 تشرين الثاني سنة 1937، التاريخ الذي ابتدأ فيه تطبيق النظام الجديد«.

يشكل جلاء جيوش الاحتلال الأجنبي عن الأراضي السورية في 17 نيسان 1946 أساساً قوياً لطرح قضية الوحدة العربية، فقد أصبحت سورية بلداً مستقلاً، وأصبح شعبها حراً في تناوله هذه القضية أو تلك. وكانت السنوات التي تلت الجلاء، سنوات نضال شاق ومعقد، ضد مختلف المشاريع الاستعمارية التي هدفت إلى إسقاط الاستقلال الوليد، وطرحت مشاريع عديدة، منها مشروع سورية الكبرى والهلال الخصيب. ووقف الحزب بقوة إلى جانب مختلف القوى الوطنية، ضد هذين المشروعين وفند أهدافهما، وهي تطويق سورية وخنق سياستها الاستقلالية.

وعلى نفس الطريق، كانت ثورة 23 تموز 1952 في مصر، أساساً جيداً وقوياً لتجسيد فكرة الوحدة العربية في الواقع الملموس. وأدى هذا التطور إلى نشوء أرضية واقعية لطرح شعار الوحدة. فالبلدان أصبحا مستقلان تماماً، وينهجان نهجاً وطنياً معادياً للأحلاف الاستعمارية، ونشأ تقارب بين البلدين والشعبين.

على أرضية هذا الواقع، أخذ شعار الوحدة يطرح من جديد، وبقوة. وقد درس الحزب الشيوعي السوري بعناية فائقة، هذه التطورات ووجد فيها أساساً جيداً لطرح موضوع الوحدة.

وطرحت القضية في اجتماع اللجنة المركزية، وجرى نقاش واسع ومعمق وصدر قرار عن الوحدة العربية ننشر نصه الكامل نظراً لأهميته التاريخية.

قرار عن قضية الوحدة العربية

اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في سورية ولبنان في دورة عادية عقدت خلالها عدة اجتماعات في 22 و 23 و 24 نيسان 1956 وكذلك يومي 6 و 7 أيار من نفس السنة، وأصدرت العديد من القرارات منها قرار حول الوحدة العربية، وفيما يلي نصه الكامل:

إن طموح البلدان العربية إلى وحدتها ليس وليد ظروف طارئة أو رغبة عاطفية، ولا نتيجة لدعاية فكرية قام بها حزب أو فريق من الناس، بل هو مظهر لحاجة واقعية، ونتيجة لتطور تاريخي موضوعي مستقل عن الرغبات والإرادات. فإن الأرض المشتركة، ووحدة اللغة، والتاريخ المشترك، والتكوين النفسي المشترك الذي ينعكس في الثقافة المشتركة، والأوضاع الاقتصادية التي يتمم بعضها بعضاً، كل هذه العوامل الدائمة التي تكونت تاريخياً والتي تتطور، رغم ما أقيم ويقام في وجهها من عوائق مصطنعة، في اتجاه موحد يؤدي إلى ازدياد التقارب بين مختلف أجزاء البلاد العربية، هي الأسس الواقعية الموضوعية التي تنبثق منها قضية الوحدة العربية.

لقد كان الاستعمار وما يزال العائق الرئيسي في وجه الوحدة العربية، ولهذا فإن شعار تضامن الشعوب العربية للتحرر من نير الاستعمار وانتزاع الاستقلال الوطني، كان الشعار النضالي الذي تمليه الظروف الواقعية. وقد لعب هذا الشعار دوراً كبيراً في فضح المستعمرين وإحباط مناوراتهم الرامية إلى فصل شعار التحرر الوطني العربي عن شعار الوحدة العربية، وإلى تشويه فكرة الوحدة العربية ومسخها وتحويلها إلى اتحادات جزئية بين أقطار عربية مكبلة بقيود معاهدات استعمارية (مثلاً: العراق والأردن)، وبين أقطار عربية مستقلة (مثلاً: سورية ولبنان)، وذلك لإرجاع الاحتلال إلى هذه الأخيرة (مشاريع سورية الكبرى والهلال الخصيب واتحاد القطرين… إلخ). إن الشعوب العربية تدرك اليوم، بشكل واضح، أنه لا يمكن تحقيق الوحدة العربية إلا على أساس الديمقراطية والتحرر التام من الاستعمار.

فتبعاً لانحسار الاستعمار عن العالم العربي ينفتح، كما تبرهن التجارب نفسها، الطريق نحو تحقيق الوحدة العربية.

فإن انتصار عدد من البلدان العربية في معركة التحرر من نير الاستعمار، وفي الحصول على استقلالها، وانتهاج هذه البلدان، وفي طليعتها مصر وسورية، سياسة تحررية قوامها ممارسة السيادة الوطنية والنضال ضد التدخل الأجنبي وضد الأحلاف الاستعمارية، كل ذلك أدى إلى انتقال شعار الوحدة العربية إلى الصعيد العملي كشعار واقعي ملموس.

إن الحجر الأساسي في الانطلاق نحو الوحدة العربية هو التعاون المتين بين البلدان العربية المتحررة، وخصوصاً بين سورية ومصر، وتوثيق الروابط بينها في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والعسكرية إلى جانب تقوية التضامن مع الشعوب العربية التي ما تزال رازحة تحت نير العبودية الاستعمارية، في نضالها الباسل من أجل حريتها واستقلالها الوطني.

ولا ريب أن نجاح الشعب العراقي الشقيق في نضاله الشاق لتحطيم حلف بغداد، والخلاص من الاحتلال الأجنبي سيزيل عائقاً كبيراً من طريق التعاون العربي ويفتح السبيل للسير بخطا أسرع نحو الوحدة العربية الشاملة.

وإذا كان طغاة الاستعمار العالمي، بمعونة صنيعتهم إسرائيل والصهيونية العالمية، يحاربون التضامن العربي وفكرة الوحدة العربية بمختلف الوسائل، لأنهم ينظرون إلى البلدان العربية على أنها مراكز استراتيجية ومنابع للنفط الذي يغتصبونه من أصحابه العرب، فإن المعسكر الاشتراكي العالمي، وفي طليعته الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، وكذلك الدول التي تحررت من الاستعمار في آسيا وإفريقيا وأخذت تنهج سياسة قوامها السلم والاعتراف بحق الشعوب في السيادة والاستقلال تؤيد جميعها نضال الشعوب العربية في سبيل تحررها الوطني الكامل وفي سبيل الوحدة العربية، لأن قضية الوحدة العربية هي إحدى قضايا السلم والحرية في العالم.

ولاريب أن توطيد العلاقات الأخوية والوثيقة بين البلدان العربية المتحررة، وتحرير البلدان العربية التي ما تزال رازحة تحت نير الاحتلال الأجنبي، والسير إلى أمام في طريق الوحدة العربية الشاملة، كل ذلك سيخلق ظروفاً أنسب لإنجاز المهمات الوطنية الكبرى الموضوعة أمام سورية ولبنان، والسير قدماً بالوسائل السلمية في تحقيق الإصلاحات الديمقراطية الجذرية التي تجابهها بلادنا، وبناء الأسس اللازمة للتطور السلمي نحو الاشتراكية.

7 أيار 1956

سارت الأمور سريعاً، وأصبح شعار الوحدة، شعاراً شعبياً طاغياً، وفي ذات الوقت، نمت قوة الحزب الشيوعي وشعبيته نمواً كبيراً، فخلال سنوات 54 ـ 58، تحول الحزب الشيوعي، إلى قوة وطنية على نطاق البلاد، وامتد نفوذه إلى أوساط واسعة من العمال والفلاحين والمثقفين، وأخذت قوى برجوازية كبيرة وخاصة البيروقراطية والطفيلية وكذلك قوى إقطاعية، تخشى من نفوذ الحزب، خاصة بعد الانتخابات التكميلية التي جرت في دمشق، وتقدم إليها مرشح القوى الوطنية رياض المالكي، ومرشح الإخوان المسلمين، المرشد العام الشيخ مصطفى السباعي، ونجح رياض المالكي. كما نجح مرشح القوى الوطنية رياض الكلاليب في الانتخابات التكميلية التي جرت في حمص، وظهر وجه الحزب الشيوعي. وفي هذه الظروف، وظروف النضال الوطني الشعبي الواسع، أخذت قوى كثيرة تتطلع إلى الوحدة العربية وبشكل ملموس إلى وحدة سورية ومصر.

وعقدت اللجنة المركزية اجتماعاً في كانون الثاني 1958، لبحث موضوع الوحدة وأصدرت قراراً هاماً جداً، اعتمد على القرار السابق الذي أتينا على ذكره، وأقر فكرة الاتحاد بين سورية ومصر، وابتعد عن شعار الوحدة.

وجاء في هذا القرار شرح مفصل للمحتوى الأساسي للقومية العربية الذي هو محتوى تقدمي ديمقراطي، وكذلك شرح للقرار السابق، وأعلن في ضوء ذلك:

»وعلى هذه الأسس الواقعية الموضوعة تقوم اليوم فكرة الاتحاد بين مصر وسورية. إن الاتحاد بين القطرين العربيين الشقيقين المتحررين، لا يعبر فقط عن أعز أماني الشعبين المصري والسوري، بل عن أماني ثمانين مليون عربي من الخليج إلى المحيط..«. وتناول القرار دور سورية في تعريف القومية العربية، ثم كفاح مصر ضد الاستعمار، وإن تحرر البلدين من الاحتلال الاستعماري فتح الطريق للاتحاد، وإن هذا الاتحاد يشكل قوة كبرى بوجه أحلام إسرائيل التوسعية، ويعزز قضية السلام والحرية، وإنه يجب أن يبنى على أسس طبيعية متينة. وينتهي القرار بالفقرة التالية:

»ولذلك، فمن أجل اختيار أفضل الطرق وأنجع السبل لتحقيق الاتحاد، وبلوغ هذه الأهداف والآمال الكبرى التي تعقدها عليه عشرات الملايين من العرب، الذين يشخصون بأبصارهم إلى القاهرة ودمشق، ينبغي أن تبادر الحكومتان المصرية والسورية، من دون إبطاء، إلى تأليف لجنة مشتركة لدرس أشكال الاتحاد من جميع النواحي والزوايا، بحيث يقوم على أسس متينة واقعية تأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية في كل بلد، وتعمل على التوفيق والتنسيق بينهما، لسد كل ثغرة يمكن أن ينفذ منها أعداء الاتحاد للعمل على وضع العصي في عجلاته«.

»إن قضية الاتحاد قضية جدية وحيوية، ومن الواضح أن تقوية الجبهة الوطنية وتعزيزها، عنصر ضروري لتحقيق الاتحاد. كما أن تضافر الجهود بين جميع الوطنيين المخلصين، في مصر وسورية، بأن يحل قضية الاتحاد حلاً صحيحاً سليماً، وبذلك تتحقق أمنية غالية وحلم عزيز على ثمانين مليون عربي ويصبح الاتحاد بين مصر وسورية حجر الزاوية في الوحدة العربية المنشودة، ويتيسر لأمتنا العربية ذات التاريخ المجيد أن تستعيد مكانتها وتستأنف القيام بقسطها من تطور الحضارة وتقدم الإنسانية«.

ولكن الأمور سارت باتجاه آخر، فقد قام وفد يمثل الجيش العربي السوري، بزيارة القاهرة وطالب بإقامة الوحدة الكاملة، كما قام وفد حكومي وتوجه بنفس الطلب. وقد جرت بين الوفدين والرئيس جمال عبد الناصر مباحثات مطولة. انتهت إلى إعلان الوحدة السورية ـ المصرية. وكان ذلك في 21 شباط 1958. وفي ضوء هذا الإعلان أصدر الحزب الشيوعي برنامجه الذي احتوى ثلاثة عشر نقطة، وأبرزها هي النقطة الأولى التي تقول »يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، في الحكم والإدارة الظروف الموضوعية في كل من سورية ومصر، وذلك عن طريق إنشاء برلمان وحكومة للإقليم السوري، وبرلمان وحكومة للإقليم المصري، إلى جانب برلمان مركزي وحكومة مركزية تهتم بقضايا الدفاع الوطني والسياسة الخارجية وغيرها من القضايا المشتركة، وينبغي أن تتألف جميع هذه الهيئات بالأساليب الديمقراطية، على أساس انتخابات نيابية عامة حرة بدون قيد. وشملت النقاط الأخرى قضايا متعددة وهي منشورة بالنص في فصل آخر من هذا القسم. وشكل هذا البرنامج، عملياً، صيغة اتحادية، انسجاماً مع توجه الحزب. ونظرت إليه القيادات المصرية وعدد من القيادات السورية على أنه عمل ضد الوحدة التي تم الاتفاق عليها، خاصة أن ممثل الحزب في البرلمان الرفيق خالد بكداش غاب عن الجلسة التي أقرت مشروع الوحدة الكاملة بين القطرين«.

استناداً إلى ذلك شنت أجهزة الأمن السورية، حملة هوجاء ضد الحزب الشيوعي بدأت ليل الثلاثين من كانون الأول 1958 واليوم الأول من عام 1959 واستمرت حتى سقوط الوحدة وإعلان الانفصال في أيلول 1961. وفي إطار هذه الحملة سقط العديد من شهداء الحزب تحت التعذيب.

في عام 1961 أصدر الحزب الشيوعي برنامجاً جديداً أخذ بالحسبان جميع التطورات التي تمت خلال السنوات الثلاث من تجربة الوحدة، سواء بالنسبة للاصطفافات التحالفية، أو لشكل التعامل مع الشعب السوري، وسمي: النقاط الثماني عشر: البرنامج السياسي الجديد للحزب الشيوعي السوري، ويقوم جوهر هذه النقاط في نص النقطة الأولى التي تطالب بـ »إعادة النظر بأسس الوحدة« وتناول النقاط تفاصيل هذه الموضوعة، وخاصة تأكيد ضرورة »تنظيم العلاقات بين الإقليمين على أسس تراعى فيها الظروف الموضوعية التي تكونت تاريخياً في كلا القطرين، وبضمن ذلك إنشاء برلمان وحكومة لسورية، ينبثقان عن انتخابات ديمقراطية حرة مباشرة وعامة ويتمتعان بالحرية الكاملة في تقرير شؤون البلاد، سوى الشؤون المشتركة التي يتفق عليها الإقليمان، على أن تكون من صلاحيات حكومة مركزية تتألف من ممثلي القطرين على قدم المساواة التامة«.

وفي هذا البرنامج المنشور في مكان آخر من هذا الكتاب، كما يظهر من النصوص، تأكيد على فكرة الاتحاد، وجعل روابطه بسيطة جداً، وجعل صلاحيات الحكومة المركزية أقل ما يكون.

عصفت الخلافات الداخلية بمسيرة الوحدة، وأدى الاستياء الواسع الذي انتشر بين جماهير الشعب السوري، إلى إضعاف الرابطة الوحدوية، الأمر الذي ساعد على نجاح مؤامرة الانفصال.

ومنذ ذلك الحين أخذت نظرة الحزب إلى موضوع الوحدة تتغير. ففي تقرير اللجنة المركزية المقدم إلى المؤتمر الثالث، قدمت معالجة واسعة حول موضوع الوحدة. وذكر في التقرير أن جوهر الخلاف مع قيادة الجمهورية العربية المتحدة والنظام الناصري، لم يكن الموقف من الوحدة العربية، وإنما الموقف من بقاء أو عدم بقاء الحزب الشيوعي السوري، فقد اتخذ قرار بحل الأحزاب، ورفضت قيادة الحزب هذا القرار، وهنا كان الخلاف، وكانت الملاحقات، والسجن والتشريد وإسقاط الجنسية والتعذيب والموت في أقبية التعذيب.

أما بشأن الوحدة فقد جاء في التقرير «إن الوحدة العربية لابد أن تتحقق، عاجلاً أم آجلاً، لأن الطبقة العاملة يزداد دورها وسوف تنتصر في جميع الأقطار العربية، وعندئذ يصبح السبيل مفتوحاً لتحقيق الوحدة ويمكن طبعاً أن تأخذ أشكالاً متعددة، وربما كان أحدها: اتحاد الجمهوريات العربية الاشتراكية.

ويتابع التقرير ويقول »وهذا لا يتعارض مع إمكانية إقامة وحدة عربية بين بلدين عربيين أو أكثر قبل انتصار الاشتراكية فيهما»، إذ إن خلق مناخ وحدوي بين البلدان العربية المتحررة التقدمية والسير على خطوات تنسيق في القضايا الاقتصادية والعسكرية والثقافية والتعاون الوثيق في النضال ضد الاستعمار والصهيونية، كل ذلك يمكن وينبغي أن يؤدي إلى إقامة أشكال ملائمة للوحدة«.

إن الوحدة العربية، لم تكن شعاراً أساسياً من شعارات الحزب الشيوعي، بل كان شعاره الأساسي هو العمل والنضال من أجل بناء الاشتراكية. وكانت هذه القضية في صلب اهتمام قيادة الحزب، وقد جرى نقاش بين الرفيق خالد بكداش وبيني حول هذا الموضوع، وكان من رأيه أن بناء الاشتراكية في بلد صغير أسهل منه في دولة كبرى واسعة الأرجاء، وكان يقدم أمثلة من البلدان التي سلكت طريق التحول الاشتراكي مثل جمهورية اليمن الديمقراطية، ونيكاراغوا، وكان مقتنعاً بهذه الموضوعة، وحاول كثيراً تسويقها لدى القيادات السوفييتية. ومن مناقشاته في هذا الموضوع، أن من الأفضل للاتحاد السوفييتي أن يعمل ويصرف في بلدان صغيرة، من أن يصرف في بلدان كبيرة. وكان يقدم مثال الهند، البلد الكبير المترامي الأطراف ذي الملايين المتعددة، ويقول: مهما قدم الاتحاد السوفييتي، فالفقر مستمر والتنمية متأخرة، بينما بمصاريف بسيطة، نمت اليمن الديمقراطية ونمت الصومال وغيرهما.

وكان اهتمام الحزب منصباً في تلك السنوات على موضوعة أخرى لا تقل أهمية، وهي موضوعة الدول الديمقراطية، وهي موضوعة درست فيما بعد وأقرت في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي. وقوامها أنه يمكن بناء تحالف يشمل البرجوازية الوطنية والقوى الوطنية الأخرى، وقوى ديمقراطية مستقلة والحزب الشيوعي بدعم من قيادة عسكرية وطنية، يقيم نظاماً ديمقراطياً تقدمياً، يحقق مطامح الشعب في التقدم الاجتماعي.

وكانت ظروف سورية مؤهلة لذلك، وأخذ يبرز مثل هذا التحالف في الواقع العملي، وأخذت هذه العملية تنمو وتتطور. وقد قطع هذا التطور بظهور فكرة الوحدة الاندماجية.

هاتين الموضوعتين كانتا مسيطرتين على فكره. وكنا نحن أعضاء المكتب السياسي، نناقش ولكن بدون موقف ثابت واضح. فقد تركت الأساليب التي مورست في سورية وفي مصر، أثراً سلبياً وجرحاً عميقاً، أعمى البصر والبصيرة.

وفيما بعد أخذ هذا الموضوع يتفاعل إلى جانب قضايا أخرى، ترتبط بالقضية القومية، كالأمة ومكوناتها، والحزب الشيوعي العربي الواحد، وشكلت جوهر الخلاف العميق في الحزب الذي أدى إلى الانقسام الكبير الأول في أوائل السبعينيات.

خلال فترة الوحدة، قمت بدراسة حول الموضوع، وصدرت هذه الدراسة بكراس خاص، تحت اسم محمد رشيد أشرف، ثم أعيد إصدارها في عدد دراسات اشتراكية بتوقيع يوسف الفيصل. وأنشر هذه الدراسة، كوثيقة تاريخية، وحفظاً للذاكرة.

آخر الأخبار