حان وقت العمل

د. أحمد ديركي:

كل متتبع لخط مسار تاريخ الأحزاب الشيوعية، منذ التشكلات الأولى لها، وتحديداً مع ظهور (البيان الشيوعي)، واسمه الأول (بيان الحزب الشيوعي)، يمكنه أن يلحظ أن المسار التاريخي لهذه الأحزاب، رغم قصر عمرها التأريخي، قد مر، وما زال يمر، بخط متعرج لا هو مستقيم ولا منحنٍ، ويود البعض توصيفه على أنه خط لولبي الشكل. بغض النظر عن شكل الرسم البياني للأحزاب الشيوعية فقد شهدت هذه الأحزاب خلال مسيرتها التأريخية فترات صعود وهبوط ولا يمكن الجزم بشكل الرسم البياني لها لأسباب متعددة، وقد يكون من أبرزها أن هذه الأحزاب لم تحاول رسمه، أو حتى العمل على رسمه. وليس لدي أي فكرة عن سبب عدم المحاولة للقيام بهذا العمل.

كما يبدو أن الأحزاب الشيوعية قد مرت بثلاث فترات مفصلية خلال تاريخها، ويمكن تقسيم هذه الفترات على النحو التالي: 1) فترة التأسيس 2) فترة استلام السلطة السياسية 3) فترة خسارتها السلطة السياسية.

لن نغوص هنا في تفاصيل كل فترة من هذه الفترات وأسبابها لأن هذا يتطلب جهداً وبحثاً معمقاً على أكثر من صعيد، ويمكن للأحزاب الشيوعية القيام به إن أرادت هذا. لذا هنا نضع الخطوط العريضة لهذا الأمر، وهي خطوط قابلة للتغير وفقاً لمستلزمات البحث لمن يشاء.

1) فترة التأسيس: كانت أوربا تعيش فترة تعرف بعصر الثورات. وهي الفترة الانتقالية ما بين موت نمط الإنتاج الإقطاعي وولادة نمط الإنتاج الرأسمالي، من رحم تناقضات الإقطاعي. وقد صاغ كل من كارل ماركس وفردريك إنجلز أسس الفكر الشيوعي، أو الاشتراكية العلمية، والمنهجية الفكرية، وتمثل هذه المنهجية القاعدة الفكرية والعملية لتأسيس أحزاب شيوعية. فتأسست أحزاب شيوعية على هذه الأسس وأخذت تتجذر في الواقع الاجتماعي الذي كان قائماً حينذاك، وما زال هذا الواقع قائماً حتى تاريخه. ولكن هذا لا يعني أن الواقع الاجتماعي حتى تاريخه لم يتطور، بل تطور ولحقه الكثير من التغيرات، لأن الصراع الطبقي في هذا الواقع ما زال قائماً، إلا أن تراكمات هذه التطورات لم تصل بعد إلى مرحلة القطع مع السابق وإعلان موته وولادة الجديد كما حدث في المرحلة السابقة. أي أنها فترة لا تشبه فترة الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية، بل هي فترة استكمال تشكل نمط الإنتاج الرأسمالي وصراع تناقضاته، والتي نتيجة تراكم تطوره سوف تؤدي حتماً إلى بداية تفككه وتشكيل فترة الانتقال منه إلى المرحلة الشيوعية.

أي يمكن القول إننا مازلنا نعيش في فترة استكمال تشكل نمط الإنتاج الرأسمالي وصراع تناقضاته المتطورة مع كل تطور يلحق بهذا النمط الإنتاجي.

كي لا يساء فهم مسألة حتمية الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى، فهذا لا يعني أن المراقِب حيادي في مسألة الصراع الطبقي يمكن الجلوس واحتساء القهوة وانتظار مجيء الحتمية. بل المراقِب عنصر أساسي في بنية هذا الصراع الطبقي، فالانتقال الحتمي ليس انتقالاً أوتوميكانيكياً. والمراقِب هو الحزب الشيوعي.

خلال هذه المرحلة تأسست الأحزاب الشيوعية من دون أن تكون محمية أو مدعومة من أي نظام سياسي كان قائماً في حينه. فقد اعتمدت بشكل أساسي على حليفها الطبقي، الطبقة العاملة، واستطاعت من خلال نضال مع حليفها الطبقي أن تتجذر في العقل والوعي الجمعي للمجتمع وتشكل قوى سياسية ضاغطة على الأنظمة الرأسمالية القائمة، وان تفرض من خلال نضالها على أرض الواقع والمعركة متسلحة بفكرها ووعيها الطبقي العديد والعديد من الانتصارات، وتكريس هذه الانتصارات بصورة مكاسب محقة للطبقة العاملة مفروضة على النظام السياسي القائم وعليه تطبيقها. ومنها على سبيل المثال فترة العمل 8 ساعات لا أكثر، الضمانات الاجتماعية، التعويضات… فكل هذه المكاسب التي تبدو للبعض اليوم على أنها بديهية تحققت بعد أن دفعت الطبقة العاملة وفي طليعتها الأحزاب الشيوعية دماً واعتقالاً وتعذيباً وطرداً ونفياً من قبل السلطة البرجوازية التي تتغنى اليوم بهذه الأمور على أنها جزء من (الديمقراطية).

2) مرحلة استلام السلطة السياسية: تراكم نضالات الأحزاب الشيوعية ضد ما هو قائم، وحروب رأسمالية الجوهر ووطنية الشكل، كلها أدت إلى قيام الثورة الاشتراكية في روسيا، ثورة أكتوبر 1917، واستلمت السلطة السياسية. ثورة كان فلاديمير لينين على رأسها وبدأ باستكمال تنفيذ الفكر على أرض الواقع. والاستكمال هنا جوهره يعود إلى أن الأحزاب الشيوعية رغم كل نضالاتها وإنجازاتها السابقة لم تسطع استلام السلطة السياسية في دولة، إلا لفترة وجيزة جداً وهي كمونة باريس، وفي حينها لم يكن الفكر والظروف قد استوفت شروط اكتمالها. وبهذا يمكن القول إن الأحزاب الشيوعية وإن كانت تملك الفكر الذي يؤهلها للإمساك بزمام السلطة السياسية فهي لم تمارسه بعد على أرض الواقع، وهذا ما فعلته ثورة أكتوبر عندما استلمت السلطة السياسية في روسيا عام 1917 بقيادة لينين.

من خلال هذا الواقع المستحدث عمل لينين ومن معه، وكذلك الأمر في بقية الأحزاب الشيوعية، على تطوير الفكر الماركسي وفقاً لهذه المستجدات المستحدثة فولد الفكر الماركسي – اللينيني. واستطاعت ثورة أكتوبر خلال فترة استلامها السلطة السياسية من نقل روسيا – بلد إقطاعي فقير بصناعات بدائية – إلى الاتحاد السوفياتي ووضعه في مركز قطب عالمي في مواجهة قطب عالمي آخر قائم على أسس الفكر الرأسمالي.

انتعشت الأحزاب الشيوعية هلال هذه الفترة، رغم كل الخلافات القائمة فيما بينها في حينها مثلاً خلاف روزا لوكسمبرغ مع لينين، وقد استطاع بعضها الوصول إلى السلطة السياسية وتجذر الفكر الشيوعي في المجتمعات. ولم تكن في حينها الأحزاب الشيوعية التي وصلت إلى السلطة ملحقة بالسلطة الرأسمالية القائمة، بل فوة فاعلة في اتخاذ القرارات السياسية.

3) مرحلة خسارتها السلطة السياسية: تفكك الاتحاد السوفياتي وخسرت الأحزاب الشيوعية، المؤيدة له والمعارضة له، موقعها في البنى الاجتماعية والسلطوية. وتشرذمت هذه الأحزاب وانقسمت على بعضها البعض وأصبح في كل دولة أكثر من حزب شيوعي ما أفقدها قوتها وعلاقتها بحليفها الطبقة العاملة. وهنا يمكن طرح العديد من الأسئلة الإشكالية، ومنها على سبيل المثال: لماذا فشل تحقيق الانتقال إلى الشيوعية في الاتحاد السوفياتي؟ أيعود السبب في هذا إلى عدم القدرة على تخطي مرحلة تاريخية – أي الانتقال من الإقطاعية إلى الشيوعية من دون المرور بالرأسمالية؟ والمرور هنا لا يعني مجرد المرور، بل للمرور شروطه الموضوعية والذاتية.

السؤال الآخر: لماذا خسرت الأحزاب الشيوعية في معظم أنحاء العالم موقعها وحليفها الطبقي بعد أن استطاعت أن تتجذر في وعي حليفها؟ لماذا تشرذمت الأحزاب الشيوعية وانقسمت على نفسها في كثير من البلدان؟ أيعود هذا إلى طبيعة علاقتها بالاتحاد السوفياتي؟ أم إلى طبيعة علاقتها مع حليفها الطبقي في المجتمع الموجودة فيه؟ هل تخلت الأحزاب الشيوعية، في الجوهر وبقيت بالشكل، عن حليفها – الطبقة العاملة؟ هل استطاعت الدول البرجوازية أن تدجن العديد من الأحزاب الشيوعية من خلال إعطائها بعض فتات المكاسب السلطوية؟ هل أصبح (جلد الذات) مبرراً للتخلي عن الفكر الماركسي – اللينيني؟ هل أصبح (التغني بمنجزات الماضي) مبرراً لبقاء الأحزاب الشيوعية؟

لا (جلد الذات) ينفع ولا (التغني بمنجزات الماضي) ينفع للإجابة عن كل هذه الأسئلة، والعديد من غيرها. الحل، أي الإجابة، يكمن في العودة إلى الفكر الماركسي – اللينيني وإجراء نقد ذاتي بناء للتجربة عبر مسارها منذ ولادتها وحتى تاريخه لاستخلاص النتائج وللانطلاق نحو بناء عالم اشتراكي قائم على أسس الاشتراكية العلمية. فهل من يجرؤ على القيام بهذا؟ ألم يحن وقت البدء بالعمل؟

آخر الأخبار