نوايا.. تتجدّد

كُتبت هذه المقالة في عام 2010، في سياق مواجهة نوايا الفريق الاقتصادي الساعية إلى إعادة ‏هيكلة الاقتصاد السوري وفق آليات السوق الحر، متبعاً آنذاك نصائح وإرشادات صندوق النقد ‏الدولي والبنك الدولي.‏

ويبدو أن هذه النوايا التي واجهت معارضة شديدة حينذاك، من قبل حزبنا الشيوعي السوري ‏الموحد والأحزاب السياسية التقدمية، وجدت من يتبناها اليوم، متذرعاً بتداعيات الأزمة ومحاولة ‏الغزو الإرهابي التي واجهها شعبنا وجيشنا الوطني الباسل.‏

ندعو اليوم إلى مشاركة مجتمعية واسعة، عبر مؤتمر وطني يشارك فيه خبراء الاقتصاد ‏السوريون، لبحث الوضع الراهن لاقتصادنا الوطني، واختيار النهج الاقتصادي للبلاد، فقد اختبر ‏شعبنا خلال سنوات الجمر آليات السوق الحر، وكيف تحول أسياده.. وسماسرته.. وداعموه، إلى ‏حزمة من المتسلطين على لقمة الشعب.. ودوائه.. ودفئه.‏

 

إلى مدَّعي امتلاك الحقائق.. كفى!‏        

‎بعض مهندسي الاقتصاد السوري ومن يسبح في فلكهم من‎ ‎المنتفعين يثابرون على تهميش ‏الآراء المخالفة لرؤيتهم عن حاضر الاقتصاد‎ ‎السوري ومستقبله، فهؤلاء لا يطيقون النقد ‏الإيجابي البنّاء، ولا الرأي الآخر، بل لا يعترفون‎ ‎بوجودهما. ‏

فمَن يتمسك بتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية‎ ‎شاملة مستدامة، ومَن يدقق فيما أُنجز.. وما لم ‏يُنجز، في سياق الخطط الموضوعة لتحقيق‎ ‎الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المعلنة، وينحاز ‏إلى مصلحة سورية وشعبها الصابر، لا‎ ‎يمكن اتهامه بالسعي إلى مصلحة ضيقة، إلّا إذا كانت ‏مصلحة الوطن والشعب في نظر البعض‎ ‎مصلحة ضيقة، عندئذ يصبح الاتهام وساماً يعلق على ‏صدور المتهَمين. ‏

أما الذين‎ ‎يسعَون إلى دفع البلاد إلى نهج مغاير.. ويروجون لاقتصاد نخبوي رأسمالي ريعي،‎ ‎ويزايدون حتى على عتاة الليبرالية الاقتصادية الجديدة، ويتجاهلون دروس الأزمة‎ ‎الاقتصادية ‏العالمية، ويرفضون الإفادة من تجارب دول كثيرة انساقت خلف هذه المزايدات،‎ ‎ودفعت الثمن ‏غالياً، هؤلاء هم أصحاب المصالح الضيقة، إذ يتمسكون برؤيتهم الاقتصادية‎ ‎الكلية القدرة.. ‏الدقيقة دائماً.. الصحيحة دائماً، ويستخفّون برؤية الآخر.. وآراء الآخر. ‏‎

يدللون على صواب رؤيتهم بنسب النمو المحققة خلال السنوات الثلاث الماضية، إذ‎ ‎بلغت بين ‏‏5ر4 و 5%، والاستثمارات الخاصة خلال العامين الماضيين التي تقدر بتريليون‏‎ ‎ونصف ‏تريليون ليرة، وحجم التصدير البالغة ما قيمته 15 مليار دولار. ونحن نقول إن نسب‎ ‎النمو لا ‏تعني شيئاً إذا لم يقطف ثمارها الفقير قبل الغني، فالمسألة هنا لا تتعلق‎ ‎بنمو قطاعات الإنتاج ‏المختلفة، بل بتنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية.. وبتحسين مستمر‎ ‎للأوضاع المعيشية ‏والاجتماعية للمواطنين السوريين، وخاصة متلقّي الأجور في القطاعين‎ ‎العام والخاص الذين ‏يشكلون مع أفراد عائلاتهم غالبية السكان. ‏

‏1_ لقد (دفشوا)‏‎ ‎توفير فرص العمل إلى القطاع الخاص، فالموازنة العامة للدولة ستوفر ‏‏63500 فرصة عمل‎ ‎فقط، في حين يدخل سوق العمل سنوياً 218 ألف مواطن، وينتظر نحو ‏‏1.5 مليون‎ ‎مواطن دورهم للحصول على فرصة عمل. لكن القطاع الخاص له رأي آخر طرحه ‏الرئيس‎ ‎السابق لاتحاد غرف التجارة: (إن القطاع الخاص حالياً غير مؤهل بدرجات متفاوتة ‏لاستيعاب‎ ‎طوابير العاطلين عن العمل، فالحكومة ومشاريع التنمية والإنفاق الحكومي هي ‏المؤسسات القادرة على تعبئة الموارد، وإيجاد فرص عمل ونمو اقتصادي، يليها القطاع ‏الخاص) ‏‎(1)‎‏.‏

‏2_ أخضع هؤلاء مفهومَيْ التنمية والعدالة الاجتماعية، كغيرهما من المبادئ، لمراجعة ‏تتناسب مع رؤيتهم الاقتصادية الهادفة إلى تكريس اقتصاد النخبة، فلسان‎ ‎حالهم يقول للمواطنين: ‏

أ – ألستم أحسن حالاً من مواطني هاييتي؟ ألا تتلقون‎ ‎أجوراً أعلى من عمال تشاد؟ ألا تحتوي ‏سلتكم الغذائية على حريرات تفوق ما تحتويه‎ ‎سلة مواطني جزر الرأس الأخضر؟!‏‎

ب – ثابرتم على النق والشكوى، لكنكم ما زلتم‎ ‎تأكلون اللحوم.. صحيح أن مصدرها مجهول، ‏وتُرسل بعضكم إلى العيادات والمشافي، لكن‎ ‎مواطني غرب إفريقيا لا يعرفون طعم اللحم‎ .

ج – تطالبون بدعم نقدي بسبب ارتفاع‎ ‎أسعار المازوت، في حين يجهل مواطنو ليسوتو لون ‏المازوت. ‏‎

د – تشتكون من إلغاء‎ ‎مجانية المشافي العامة، وأنتم لا تدفعون إلاّ 150 ليرة سورية عند ‏مراجعة هذه‎ ‎المشافي، بينما يموت المرضى على قارعة الطرقات العامة في الصومال، فكفاكم ‏نقّاً! القناعة مطلوبة منكم، خاصة ونحن نتعرض لمزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية. ‏‎

ونحن نقول لهؤلاء: كفى.. كفى! إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية ليست فقط‎ ‎سبيل السوريين ‏للخروج من نفق التخلف والجمود، بل هي ايضاً حق لهم كسائر الحقوق الأخرى التي‎ ‎أقرها ‏المجتمع الدولي، ويشكل هذا الحق للإنسان توسيعاً لحقوقه لتشمل الظروف المادية‎ ‎التي تحد من ‏إمكانات غالبية البشر من المساهمة والانتفاع بثمار تنمية‎ ‎المجتمعات، فالتنمية التي تضمن ‏للإنسان حقوقه هي (عملية اقتصادية وسياسية واجتماعية‎ ‎وثقافية شاملة تستهدف التحسين ‏المستمر لرفاهية السكان بأسرهم دون تمييز على أساس‎ ‎مشاركتهم النشيطة والحرة في هذه ‏العملية، وأيضاً في التوزيع العادل للفوائد الناجمة‎ ‎عنها) (2)‏‎

‏3_ ينفي هؤلاء ضرورة الدعم المتعدد الأشكال للفئات الفقيرة‎ ‎والمتوسطة، فالتسعير المدعوم-‏حسب رؤيتهم- ولّى إلى غير رجعة، ولن تستطيع الدولة بعد‎ ‎الآن تحمل خسائر دعمها لأسعار ‏بعض السلع والخدمات الضرورية للمواطن. الصورة تتضح‎ ‎أكثر فأكثر حين يتنكر هؤلاء ‏لوعودهم، ويناورون مستخدمين ما يعزز رؤيتهم من النظريات‎ ‎والسياسات الاقتصادية لتكريس ‏عدالة السوق.. عوضاً عن العدالة الاجتماعية، وتحويل دور‎ ‎الدولة‎ ‎إلى مراقب ومتفرج بدلاً من ‏دورها الاجتماعي الراعي للكتلة الشعبية الكبرى‎ ‎القادرة على دعم القرار الوطني المستقل في ‏مواجهة ضغوط قوى الهيمنة. ونحن نقول‎ ‎لهؤلاء: كفى.. لا أحد في بلادنا يريد لخزينة الدولة ‏تحمّل الخسائر، بل نتمناها عامرة‎ ‎بالمليارات، لأن في ذلك مصلحة المواطن أولاً، إذ يعني ذلك ‏مزيداً من الاهتمام بأزماته‎ ‎المزمنة التي عاناها طويلاً، وخاصة تواضع الأجور.. وأزمة ‏السكن.. والضمان‎ ‎الصحي، والمقترحات التي قدمها العديد من الاقتصاديين السوريين لسد ‏العجز الناتج عن‎ ‎استمرار الدعم، كمكافحة الفساد، وتعديل قوانين الضريبة، والقضاء على ‏ظاهرة التهرب‎ ‎الضريبي، وترشيد النفقات الحكومية، وزيادة الفوائض الاقتصادية، كانت تهدف ‏إلى زيادة‎ ‎إيرادات الحكومة لتكون أقدر على دعم المواطن السوري، ليس من أجل لقمة العيش ‏فقط، بل‎ ‎من أجل رفاهه وضمان مستقبله، في بلد ديمقراطي التوجه.. تعددي المحتوى. ‏

الوقائع‎ ‎تشير إلى استمرار بعض مدبري اقتصادنا الوطني بتنفيذ رؤيتهم لمستقبل اقتصادنا‎ ‎وبلادنا، دون الأخذ بالحسبان جميع الآراء المعارضة لهذه الرؤية، ولا ندري هنا هل‎ ‎المقصود ‏بذلك وقف الحوار حول حاضر بلادنا ومستقبلها؟ إذا كان الأمر كذلك نقول لهؤلاء: كفى! آن لكم ‏أن تكفّوا عن تخوين الآخر.. واتهامه .. وتصغيره .. وتهميشه.. وتجاهل‎ ‎رأيه.. وتعالوا لنحتكم ‏إلى مؤتمر اقتصادي وطني يضم خبراء الاقتصاد السوريين، وممثلي‎ ‎الرأسمال الوطني المنتج، ‏والنقابات والأحزاب الوطنية، كي نضع الخطط الواقعية لحاضر‎ ‎ومستقبل اقتصادنا الوطني، ‏فرؤيتكم لا تمثل طموح شعبنا إلى التنمية الاقتصادية‎ ‎والاجتماعية الشاملة المستدامة. ‏

‎basharmou@gmail.com

================

المراجع: ‏

‏1_ راجع: صحيفة (القنديل) الأسبوعية – العدد 9.‏

‎ ‎‏2_ راجع: (حق الإنسان في التنمية) الذي صدر عن الأمم المتحدة في عام 1986‏‎ .‎‎ ‎

آخر الأخبار