استشهاد فرج الله الحلو

عندما بدأت معركة الانتخابات في سورية عام 1954، وتقرر ترشيح خالد بكداش عن مدينة دمشق، اتخذت قيادة الحزب قراراً بالانتقال إلى دمشق، وتم الانتقال قبل صدور النتائج، وعندما أعلن نجاح خالد بكداش، بدأت هذه القيادة تمارس أعمالها.

وكانت تضم الرفاق: خالد بكداش وفرج الله الحلو ونقولا شاوي وحسن قريطم ويوسف الفيصل. وكان الرفيق أرتين مادويان يشارك في الاجتماعات عندما يزور دمشق. وكانت الأعمال السورية مرتبطة بشكل مكثف بالرفيقين السوريين بكداش وفيصل. وعندما تقرر إصدار جريدة للحزب في دمشق، وقبل اقتراحي، بأن يكون عبد الباقي الجمالي صاحب الامتياز، تقرر أن يقوم الرفيق فرج الله الحلو بالإشراف على الجريدة، وأن يتابع الرفيق نقولا قضايا التنظيم. واستمر هذا العمل على هذا النحو حتى عام 1958. وخلال هذه الفترة سافرت إلى الدراسة الحزبية برفقة الرفيق دانيال نعمة. وعندما ساءت الأحوال غادر الجميع دمشق وبقي الرفيق فرج الله مشرفاً على العمل الحزبي بمجموعه. وكان سكرتير منظمة دمشق المدعو رفيق رضا الذي أمكن شراؤه من قبل أجهزة الأمن السورية، وتحول إلى عميل للمكتب الثاني، كما أمكن شراء عملاء آخرين، بينهم منير فرح والمدعو أبو الحاج. وسلم هؤلاء معلومات واسعة عن منظمة دمشق وعن النشطاء فيها، ولعبوا دوراً مشينا في حملة الاعتقالات وفي حملة التعذيب. وفي إسقاط معنويات أعداد كبيرة من المعتقلين، وتخاذلهم وتقديم بيانات انسحاب من الحزب وإدانته، في موقفه من الوحدة. وكانت هذه البيانات تذاع في الإذاعة وتنشر في الصحف. وتركت تأثيراً سلبياً على تطور الوضع السياسي.

استمر فرج الله الحلو في قيادة العمل الحزبي في دمشق إلى حين اعتقاله في حزيران 1959. ويروي الرفيق طنوس دياب واقعة الاعتقال:

«كان عندي أخ يعمل في شركة للمطبوعات. وكان ينقل كميات من المطبوعات بسيارة (فان) يومياً تقريباً إلى دمشق، ذهبنا معه أول مرة أنا وفرج الله، وبعدها كان الرفيق فرج الله يذهب معه إلى بيروت ويعود إلى دمشق. سمعت يوماً صوت (الفان) الذي يقوده أخي ويتوقف كالعادة قرب المنزل، خرجت إلى الشرفة المطلة ففوجئت بالرفيق فرج الله ينزل من جانبه ويصعد معه إلى البيت. كان الوضع صعباً في سورية. عانقت الرفيق فرج الله بحرارة. كنت أحبه حباً غير عادي، وهو كان إنساناً غير عادي..

في نفس هذا اليوم أو في اليوم التالي ذهب الرفيق فرج الله إلى مواعيده، ولكن عاد مبكراً على غير عادته. قال لي إن الرفيق الصلة لم يأت إلى الموعد. ذهبت إلى الغرفة التي يسكنها فلم يفتح لي أحد. رغم أن دراجته كانت موضوعة قرب باب الغرفة (كان هذا الرفيق سورياً يدعى صبحي الحبل يعيش في طرابلس، وقد استدعي للعمل في دمشق في هذه الفترة«.

«كانت القاعدة أنه إذا تعطل لقاء حزبي لأي سبب غير معروف، يتجدد تلقائياً في اليوم التالي. طلبت من الرفيق فرج الله أن يدلني على مكان الموعد وزمانه، لأذهب أنا بدلاً منه. فرفض بإصرار. فقلت له: يارفيق فرج، إذا أنا اعتقلت فأنا غير معروف مثلك ولا مطلوب مثلك. كرر الرفض بإصرار أشد. شعرت أنه خائف علي. في اليوم الثاني غادر المنزل. وقفت على الشرفة كالعادة، ورأيته يبتعد ويختفي في الزاروب الثاني. وكانت هذه آخر مرة أشاهده. ذهب ولم يعد. مضى يوم، اثنان، ولم أسمع عنه شيئاً. أرسلت خبراً مع أخي إلى الرفاق في بيروت أخبرهم بما جرى، فجاءني الجواب: ضبضب أغراض البيت وعد بسرعة إلى لبنان، وبدأت أنا وأخي فوراً بالضبضبة، ولكن تركنا كل شيء في البيت، ولم أجلب معي إلى لبنان سوى الراديو والأكورديون».

«ذهب الرفيق فرج الله إلى الموعد، فلم يأت الرفيق الصلة، ذهب إلى غرفته وطرق الباب ففتح له رجال المباحث وقالوا له أهلاً وسهلاً.. ناطرينك ياأستاذ. اعتقلوه وأخذوه إلى أحد بيوتهم حيث أنزلوا به صنوفاً من التعذيب تقشعر لها الأبدان، وهو صامد، رغم أنه كان يعاني من القلب ويتناول أدوية باستمرار. وظهر الخائن رفيق رضا مع المحققين، وحاول «إقناع» فرج الله بالاعتراف: «نعم إننا تعاملنا مع اليهود»، فرد الرفيق فرج على رفيق رضا باحتقار: ألك زمان بهالشغلة؟ وبصق في وجهه وصفعه، بعدها اشتد التعذيب. ونفخوا بطنه وأخذوا يقفزون عليه حتى انفجر واستشهد. وما جرى بعدها معروف. خافوا من الفضيحة. طمروا الجثة في البداية تحت درج المكان الذي كانوا يعذبونه فيه. وخوفاً من اكتشاف الجثة قاموا بنقلها إلى منطقة المقالع قرب المزة وطمروها هناك. ولكنهم ظلوا خائفين. عادوا إلى نبش الجثة ونقلها إلى أحد البيوت في الغوطة حيث أذابوها بالأسيد وألقوا السائل في نهر بردى».[1]

أخفت السلطات العليا في الجمهورية العربية المتحدة جريمة قتل فرج الله الحلو، ولعبت الأجهزة دوراً في إرسال عناصر إلى بيروت تنقل من حين لآخر، أخباراً تتحدث عن
مشاهدة فرج الله الحلو في هذا المكان أو ذاك، أو في إحدى سيارات المخابرات. ولم يعترف عبد الناصر بوجود فرج الله الحلو في سورية، وأعلن أن سجلات أجهزة الحدود، لا تتضمن دخول لبناني بهذا الاسم. ومن الطبيعي أن فرج الله لم يكن يتنقل حاملاً وثائق باسمه، وكان يحمل وثيقة باسم عساف. ولكن الأمور كشفت فيما بعد، وجرت محاكمة في دمشق بعد الانفصال أدانت الجريمة وحكمت على عميل أجهزة الأمن وجيه أنطاكي الذي قام بعملية التعذيب والتذويب بالسجن خمسة عشر عاماً.

[1] ـ عزيز صليبا. العمل السري في الحزب الشيوعي اللبناني مع صفحات من تاريخه ص: 112 ـ 113 ـ 114. جميع التفاصيل عن جريمة قتل فرج الله الحلو مدونة في وثائق المحاكمة التي جرت في دمشق بعد سقوط الوحدة السورية ـ المصرية.

 

المصدر: كتاب (يوسف الفيصل – ذكريات و مواقف

آخر الأخبار