في الذكرى المئوية لتأسيس الحزب .. أضواء على منظمة دوما
مدينة دوما .. اسم آرامي يستمد شرعيته من التاريخ القديم.
عروس الغوطة الشرقية بريف دمشق. عُرف فلاحوها بالمهنية والصلابة، وحرفيوها بالإتقان والمهارة. من يسكنها لا يغادرها.. فيها كل ما يلزم من أمور الحياة.
دوما المشهورة ببساتينها وحقولها الغنية.. هي مدينة تعشقها الحياة.
شارك أهلها في النضال ضد المستعمر الفرنسي.. ومشهود لهم بالرجولة والشهامة.
في أجواء عاصفة نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.. نشأت هياكل منظمة دوما.
بعض الرفاق أكدوا مساهمة المحامي المشهور نجاة قصاب حسن في ذلك، إذ كان وقتذاك مسؤولاً في منظمة دمشق للحزب.
لكن الثابت هو مساهمة الرفيق المرحوم لطفي آل رشي في منظمة دوما في بداية الخمسينيات، وقد التقيته قبل وفاته وأكد أنه عمل في المنظمة مع الرفيق يوسف نمر. كما أكد لي تنسيب رفاق من القرى والبلدات القريبة من دوما: الشيفونية، وعدرا، وحرستا.
أيضاً عدد من الرفاق من عائلة ناجي كان دورهم بارزاً في تأسيس ركائز منظمة دوما. في ريف قاسٍ متمسك بالعادات والتقاليد والأعراف.
كم هي صعبة ومؤلمة البدايات!
وكم هي قاسية مظلومية المجتمع المحافظ، عندما تُحارَب بسبب أفكارك فقط!
المنظمة استقرّت عددياً في منتصف الخمسينيات، وكان معظم أفرادها من العمال وصغار الكسبة.
توسعت المنظمة ودخلت في الشرائح الاجتماعية المختلفة. وكان نشاطها محدوداً بسبب خصوصية الاوضاع في المدينة.
تعرض أعضاء الحزب للملاحقة في زمن الوحدة، واختفى الكثيرون تجنّباً للاعتقال.
وقضى الرفيق محمد النائب أكثر من سنة ونصف في المعتقل.
بعض الرفاق وقعوا على وثيقة انسحاب من أجل عوائلهم. وكما اعتقد ولا أجزم، كان ذلك بتوجيهات من قيادة الحزب. بعد الانفصال لملمت المنظمة أشلاءها وزاد أعضاؤها، وانتسب للحزب أعضاء جدد، وبات للحزب منظمة في ثانوية دوما.
رشّحت منظمة الحزب تسعة عشر رفيقاً ورفيقة، وأرسلهم الحزب للدراسات المختلفة في الدول الاشتراكية، وتخرجوا:
طبيبان، ٤ مهندسين، ٣ دراسة مهنية، ٣ منحة اطلاعية، ٣ دراسة حزبية، رفيق واحد دكتوراه في التاريخ، رفيقة طبيبة، ورفيقة صيدلانية.
التركيب الطبقي للمنظمة:
كان يغلب على المنظمة الطابع العمالي والحرفي.
أسست المنظمة فريقاً رياضياً لاتحاد الشباب ولم يستمر طويلاً. كما أصدرت منظمة الاتحاد نشرة ملوّنة من ست صفحات، ثم توقفت.
انقسمت المنظمة في بداية السبعينيات، وكان الانقسام الأول عاصفاً على كل مفاصل الحزب، وترك آثاره السلبية.
منظمة دوما كانت منظمة صلبة بسبب الظروف الخاصة المحيطة التي تكرس تصلب الرفاق وتقوي عزيمتهم، وبسبب المعارك الاجتماعية والفكرية والسياسية.
للأسف الشديد، تعرّض الرفاق في المنظمة للضرب من البعثيين والناصريين والإخوان المسلمين.
فالرفاق قلة قياساً للتجمعات السياسية الحزبية الأخرى.
نسقت المنظمة مع عدد من الرفاق العاملين في مشفى دوما من مناطق أخرى، وكلنا يذكر الأثر الطيب للرفيق الدكتور عبدو البطل والرفيق الدكتور ياسين حيدر.
ولم تبخل المنظمة في مساعدة الرفاق القادمون للمدينة بسبب عملهم في المدينة أو وظائفهم أو سكناهم.
في عام ١٩٨٦ حدث الانشقاق الأكبر، وظهر الأثر السلبي على نفسية الرفاق ومزاجهم.
فتنسيب شخص للحزب كان أمراً عسيراً جداً وليس بالأمر السهل، وتأتي خلافات الحزب لتطيح بعدد من الكوادر. فانشقاقات الحزب ملهاة درامية مؤلمة.
وزعنا منشورات الحزب في شوارع المدينة وأكثر من مرة. فبعض من يرانا كان ينظر إلينا شزراً. وبعضهم ينظر بمودة. كنت أنا والرفيق أحمد لكه، والرفيق المحامي محمود هارون، قد قمنا بتوزيع المنشورات علناً، في أجواء صاخبة محتقنة. لم نتردد أمام ردّة الفعل لبعض الاشخاص المتشددين.
في عام١٩٨٧ انتظمت المنظمة عددياً، وأرسلت مندوباً لحضور المؤتمر السابع وللمرة الأولى في تاريخ المنظمة. تواترت اجتماعاتها بانتظام، وجرى ضم رفيقة للجنة الفرعية.
عملت المنظمة حلقات تثقيفية. لكن بعد التسعينات تراجع عمل الرفاق للصفر وانفرط عقد المنظمة مجدداً، بسبب سفر عدد منهم للخارج. كان للمنظمة تمثيل في مجلس مدينة دوما منذ منتصف الثمانينيات.
أيضاً انفرط عقد المنظمة خلال الأحداث المؤلمة في بلدنا، وحافظ معظم الرفاق على تكوينهم الفكري والحزبي ولم ينجروا وراء الشائعات، وبعضهم سافر لبلدان أوربا.
حالياً تعيش المنظمة أوضاعاً طبيعية وممثلة في اللجنة المنطقية لريف دمشق، وأعاد عدد من الرفاق ارتباطهم الحزبي.
نحن اليوم على أعتاب المؤتمر الرابع عشر، والحزب ينشط عشية الذكرى المئوية.
ما يتمناه الرفاق في منظمتنا، مثلهم مثل غيرهم، أن يجد الرفاق في مختلف فصائلهم دروباً مشتركة واعمالاً موحدة للوصول إلى الوحدة المنشودة.
وحقيقة لم نستطع أن نجد فواصل مشتركة مع رفاقنا الآخرين، رغم وضع المدينة الذي يتطلب جهوداً مشتركة، والتمثيل المشترك في مجلس مدينة دوما.
وللعلم دوما أنجبت الشعراء والفنانين والإعلاميين، وسطع نجمهم على مساحة سورية.
نعم، أرهقنا الظلم الاجتماعي لكن لم ينل من عزيمتنا.
حتى أكاليل الورد التي وضعناها، في جنازة الرفيق الدكتور عبد الغني صالحاني، حاول المتشددون أن ينزعوها. فتصدّينا لهم أنا والرفيق الرائع فاتح بهنيني.
هذه خلاصة بسيطة لمنظمة عانت الأمرّين. ظلم المجتمع وظلم القوى السياسية الأخرى التي نظرت إلى الشيوعيين نظرة عدائية، لكن ما أود الإشارة إليه، وهو موضوع هام جداً، أنه وخلال الاحداث حافظ الشيوعيون على قوامهم العددي، وفكرهم والتزامهم الحزبي. وكانوا أشداء في نضالهم ضد التيارات الظلامية ولم يتخلوا عن المبادئ التي نشؤوا عليها.
الملاحظة الأخيرة هي أن منظمة الحزب حافظت على مكانتها ووحدتها ولم يستطع الآخرون اختراقها أبداً.
مسيرة طويلة لهذه المنظمة الباسلة في ظل ظروف أشبه بالمعجزة.
هكذا هي الأفكار الطيبة.. تزرع في أرض طيبة.
التحية والتقدير والمودة لكل الرفاق الذين حملوا الجمر بين عيونهم وتحملوا كل أنواع الظلم الاجتماعي في سبيل كلمة طيبة تنير العقل والدرب.. السلام لأرواح من حملوا معول البناء ليزرعوا نبتة معمرة في هذا الصرح العظيم: الحزب الشيوعي السوري!