دمشق الياسمين!

محمود هلال:

دمشق التي تغنى بها الشعراء وكتب عنها الأدباء الكثير كانت يوماً دمشق الياسمين كما قال الشاعر الدمشقي نزار قباني: (عندما أكتب عن دمشق يعرش الياسمين على أصابعي). نعم، كانت كذلك شوارعها وأرصفتها يعرش الياسمين على جدران منازلها، فكانت مدينة فواحة بعطرها الزكي، أما اليوم فتحولت شوارعها وحاراتها وأرصفتها إلى مواقف للسيارات، الأمر الذي بات يربك المشي فيها، دمشق التي كانت مزدانة ومضاءة بالأنوار والكهرباء باتت تغط اليوم في ظلام دامس ليلاً، وتغزو شوارعها وأسواقها مولدات الكهرباء نهاراً بسبب ساعات التقنين الطويل مما جعلها صاخبة في حالة ضجيج وضوضاء مزعجة للسمع وللنظر.

كانت دمشق تعدّ من أرخص عواصم العالم للمعيشة، نعم، كانت كذلك عندما كان صحن الفول لا يتجاوز سعره الخمس ليرات وكذلك سندويشة الفلافل التي أصبح سعرها اليوم يتجاوز 2000 ل.س. وحسب الخبراء والمهتمين بالشأن الاقتصادي ومعطياتهم (إن أخفض أجور في العالم هي في سورية). لذا يمكن اعتبار المعيشة في سورية رخيصة مقارنة مع دول الجوار وليس بمستوى دخل الفرد فيها، وهذه نقطة هامة، فمتوسط الدخل في دول الجوار يقارب 1000 دولار شهرياً، بينما في سورية يبلغ نحو 25 دولار، أو أقل، خاصة بعد الارتفاع الكبير في سعر الصرف، مما سبب في تدني القيمة الحقيقية لمعظم الأجور.

لقد أصبحت الهوة كبيرة جداً بين الرواتب والأجور والأسعار، كما أن الزيادة الأخيرة 50% على رواتب الموظفين والمتقاعدين ابتلعها التجار قبل أن يستلمها أصحابها، فضلاً عن القسم الكبير الذي اقتطع منها ضريبة دخل وتأمينات ورسوم نقابية وغيرها!!

كل ذلك يدفعنا للتساؤل: كيف لهؤلاء أصحاب الدخل المحدود، في ظل موجة الغلاء وهبّة الأسعار التصاعدية التي نشهدها كل يوم، أن يتدبروا أمورهم المعيشية والحياتية براتب قليل كهذا؟ في الوقت الذي أصبحت فيه أصغر أسرة تحتاج إلى أضعاف هذا الرقم حتى تستطيع أن تكمل الشهر؟ قد يقول قائل: لا أحد يعيش على راتب واحد فقط، فمعظم العاملين بأجر يعملون عملاً ثانياً. ونقول: هذا صحيح، ولكن هؤلاء يعملون لا (فرفشة) ولا ترفاً أو حباً بجمع الأموال أو لتكديسها أو إيداعها في المصارف، بل يعملون مرغمين على ذلك ليوازنوا بين دخولهم ومتطلبات الحياة الصعبة. يعملون على حساب صحتهم، وعلى حساب راحتهم، يعملون على حساب الجلوس مع أسرهم وأبنائهم، وعلى حساب حقهم في متابعة بعض النشاطات الثقافية كالذهاب إلى السينما والمسرح ومشاهدة التلفزيون وقراءة الصحف والكتب وغيرها، وعلى حساب القيام بواجباتهم الاجتماعية بزيارة الأهل والأصدقاء ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، يعملون لكيلا يتحولوا إلى لصوص ومرتشين وفاسدين في وظائفهم، ولكي يبقوا شرفاء محافظين على كراماتهم في نهاية العمر، ولكيلا يمدّوا أيديهم لأحد أو يتحولوا إلى متسولين، ولكيلا يفتحون أفواههم للهواء وينتظرون الفرج.

كان الراتب في سبعينيات القرن الماضي لحملة الشهادة الجامعية 375 ليرة سورية، وللثانوية 210 ليرات سورية، وللإعدادية 180 ليرة سورية، وكان يكفي العامل ويزيد، ويستطيع أن يدخر منه لشراء بيت أو سيارة وكل ما يحتاج إليه، أما الآن مع تآكل القوة الشرائية للرواتب والأجور، فلو فكّر العامل بادخار كامل راتبه لاحتاج إلى سنين وعقود.

يمكن القول إن العاملين اليوم محاصرون بلقمة عيشهم ويضيق الخناق عليهم أكثر فأكثر! فليكن هناك قليل من الرحمة في القلوب، ويكفي هؤلاء ما هم فيه من فقر وجوع وشقاء! لقد تحمّل المواطن السوري عبء حرب لأكثر من عشر سنوات وبقي متمسكاً بالأمل وبالغد الأفضل، وبأن ترجع دمشق وسورية كما كانت بلد الياسمين، فلتعمل الحكومة على تأمين حياة كريمة لهذا المواطن الصامد الصابر وتحقق له بعض أمانيه.

آخر الأخبار